الأحد، 2 يوليو 2017

ثقفني اون لاين : انحراف قلم (2).. «إنكار أدبي»

عندما يسعى أحدهم إلى مَزْج الواقع بالخيال، فإن النتائج تكون مأساوية. هذا ما قاله ماريو بارغاس باختصار عن تجسيد الأدب للواقع الذي نحياه في كتابه «رسائل إلى روائي شاب».
بعد قراءتي ما قاله بارغاس مَكثت كثيرًا أُفكر في سبب لوجود الفجوة الواضحة الموجودة؛ بين ما يَسطره كُتابنا وبين واقعنا الحالي، وهذا بالطبع بعد إدراكي أن هناك فجوة أصلًا! فحتى هذه اللحظة لا أستبعد كَون هناك كُثر لا يَشعرون بهذا التَصدَّع المُتباين ولا يَكترثون له؛ والذي أظنه سببًا لانتفاعهم بذلك الوضع القائم، أو رفضهم المُتطرف للواقع والذي خلق حالة «إنكار أدبي» لكل ما يَمُت لذلك الواقع بِصلة، ومن المُحتمل كَون ذلك أيضًا بسبب أنهم لا ينتبهون من الأساس لما يحدث حولنا من هَزليات مُرة.

ولكني سأرفض الاحتمال الأخير كوني مُؤمنًا أن كل كاتب يَعقل، وأن تُخْمة واقعنا بمَن يُطلق عليهم كُتابًا وهم لا يَعقلون يثير في عقلي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنزلوا الناس مَنازلهم». كما أن هناك الكثير لا يدرك وجود أخدود هائل بين ما يَكتب وما نمر به بيومنا فسيقطون به، هُناك أيضًا من يُدركه، وقليل منهم في مُحاولات بائِسة لردمه بما يَكتب، مثل هؤلاء يُقدرون التأثير الناعم الذي يَتركه الأدب القائم على مزج الواقع بالخيال في النفوس حق قدره. نعم، أوافق بارغاس رأيه، فهذا السلاح الناعم الخفي الذي يُمكن أن يُترجم إلى مَوقف تمرد ضد الثوابت المُحيطة حُرم في مُجتمعاتِنا ونحن من حَرمناه.

صحيح أن كل كاتب بارع باستخدام الكلمات – وهم كثُر – يَستطيع أن يُشعل في النفوس ما يشلعه. أما الكاتب القادر على ترجمة ما يُشعل فينا إلى الواقع المحيط فما زلت أنتظره لأقرأ له. أعتقد أنه لم يُلقِم أقلامه بعد.

وحتى أجد ذلك الكاتب، يجب أن يمحي المجتمع أسباب عدم وجوده، يوجد أسباب كثيرة منها على سبيل المثال:

التلوث بالجمال

منذ أيام صادفت مَنشورًا لكاتب يُؤمن إيمانًا عميقًا بأهمية اللغة عن الفكر! فما يا تُرى سبب ذلك؟

يظهر للعيان وبشدة تباين المستوى المُروع بين ما يطرحه الأدب الغربي من أفكار أدبية وما نقدمه نحن، ولا شك في أن الأفكار النابعة من الأدب الغربي أكثر ابتكارًا وأقربها للواقع واحتياجاته، وذلك ليس لتَقدمهم ولا لعَبقريتم الفَذَّة ولا شيء من هذا الهُراء! إنه فقط يرجع لانصرافنا عن معالجة الأفكار والاهتمام بدلًا عن ذلك بجمال اللغة المُتكلف والذي أُطلق عليه «الجمال الملوث». وهُنا تذكرت ما قاله د. أحمد خيري العمري حول كوننا أمة أفعال لا أقوال! فقال إن ذلك نابع من ثقافة جَعجعة ومُبالغة بلاغية وكلامية لا تُقدم ولا تؤخر، لكنها كثيرًا ما تُرضي المُتحدث أو المُتلقي على نَحو لا يُنتظر بَعدها أن يُرى الفعل مُتحققًا. لأن الفعل بالنسبة له هو «الكلام»، مبررًا ذلك بأنه ثقافة عَربية قَديمة.

غاية الشهرة

يراودني منذ الطفولة سؤال صغير؛ لماذا يُنظر إلى كل من يُصرح علانية بأن الشهرة مبتغاه نظرة سيئة؟

عَلمت مؤخرًا أن تلك النظرة نابعة من داخلنا نحن؛ أي إننا يَتخلل رؤوسنا مَفهوم سلبي عن الشهرة، نابع من حُبنا الأعمى لذواتنا وتمحورنا المُتطرف حولها. حيث يظن مُعظمنا أن طالب الشهرة لا يفكر في شيء غير الشهرة نفسها! والحقيقة أن المعظم كذلك ولا جدال في الأمر. نعم، معظم المشاهير أرادوا الشهرة للشهرة، يَتخذونها غاية في حد ذاتها، هؤلاء لم يكلفوا أنفسهم عناء الإجابة على سؤال: «وماذا بعد؟!».

وماذا بعد أن أكتُب إسفافًا لأصبح مَشهورًا؟ لا شيء. أما الإنسان الذي ينظر لها كوسيلة تمكنه من الإصلاح والتَعمير فيُدهس بلا رحمة تحت أقدام السَف والإباحيات.

كثير من اللاشيء

باختصار مُشدد، أعجز في كثير من الأحيان عن أن أجد الكتاب أو الرواية المُبهرة والمُشبعة فكريًا وفلسفيًا، نادرًا ما يُثير في كاتب معاصر شهوة عقلي. ويُعد ذلك نتاجًا طبيعيًا حينما يصدر للكاتب الواحد عمل كل عام، وأحيانًا عملان وثلاثة بالعام الواحد بدلًا من التَمهُل لإخراج شيء، يُملأ الوعاء بكثير من اللاشيء! فلا يُغني ذلك ولا يُسمن من جوع.

إغواء

يَدخل البعض إلى الوسط الأدبي بأحلام وردية، حاملًا على عتقه تغيير الوسط وأحيانًا العالم! والحقيقة أني أُقدر هؤلاء القِلة، أعشق مَنطقهم حد الجنون، أحذو حذوهم على الرغم من وضعهم دائمًا في حيز الاستهزاء والسخرية.

ولكن بعد دخول هؤلاء الحالمين إلى الغابة الأدبية، سريعًا ما يجد نفسه غريقًا بالمُستنقع. يفعل ما كان يَنتقد مُضيفًا جنديًا إلى صفوف من كانوا أعداءه!

«هتدفع هتشوف اللي عمرك ما شوفته»

تحولت دور النشر والتوزيع إلى تجارة بالمقام الأول، لا تنظر إلى العمل بقدر ما تَنظر إلى مُتابعي الكاتب. تُدجن الكتب للقطيع، لا يهم نوع العلف، بقدر ما يهم وجود قطيع يأكل العلف. ناهيك عن أعمال النصب المُنتشرة والواردة كثيرًا على مسامعنا كل يوم.

تأخذ أيضًا بعض دور النشر نقودًا نَظير نشرهم للكتاب، وهذا ما ذكرني بالمقوله الشهيرة: «هتدفع هتشوف اللي عمرك ما شوفته».

ولنا بذلك الحديث بقية.

The post انحراف قلم (2).. «إنكار أدبي» appeared first on ساسة بوست.



لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست