(1)
ربما لستُ ورعًا ولا أملكُ من صفات التقوي إلا قليل، الله يعلم أيضًا هل أنا عابد أم عبد أم عبد صالح – مع الفروق اللغوية بين كل – أم لا، لكني أعلم أن لا أحد يعلم الحرمين أكثر مني تقريبًا، ولدتُ هناك، عشتُ هناك، تعلمتُ دون أن أدري هناك، ويتبدل حالي أيضًا هناك.
أول من أقام الكعبة لم يكن بشرًا، بل الملائكة، كان الله – عز وجل – قد أراد أن يعلم آدم كيف يبني لنفسه بيتًا، وكان البيت الذي نطوف حوله اليوم ونقصده قبلة، أول ما علمه الله للإنسان في تاريخه، وظلت الكعبة المباركة رحمة للناس وأمنًا، ولم يكن بناؤها الأول درسًا فقط لآدم عليه السلام، بل جاء بعده الكثيرون ليتعلموا منها.
فإذا بإبراهيم عليه السلام، خليل الله وأبي الأنبياء، وجد بني إسرائيل وجد العرب، يترك ابنه وزوجه في وادي اشتد به الجفاف والفقر والعسر، وحينما يكبر ابنه ويبلغ أشده ويبلغ قلب سيدنا إبراهيم حدًا من الاطمئنان بأن النبوة ستكون لولديه إسماعيل وإسحاق، يجد الله يأمره بأن يذبح ابنه.
لم يكن سيدنا إسماعيل يشك في أمر الله طرفة عين، فحين أبلغه أبوه: إني أرى في المنام أني أذبحك. فأسرع وقال: يا أبت افعل ما تؤمر.
وكانت الطاعة هاهنا طاعة لأمرين: لأمر الله الذي لا يريد ضرًا بعباده. والطاعة الأخرى هي طاعة الوالدين. وكان والد سيدنا إسماعيل ليس بشرًا فحسب، بل بشرًا ونبيًا، أي أنه أكثر الناس حرصًا عليه، في صفة البشر هو أبوه ومقامه عنده العين والبصر وأغلى، وفي صفة النبوة هو من بني الإنسان الذين يود جميع الأنبياء نجدتهم.
وحين بلغ سيدنا إبراهيم وولده اسماعيل موقع الذبح، إذ بالله يأمره بأمرين: الأول أن يفدي ولده بكبش، فداء من السماء. والثاني أن يكون إبراهيم للناس إمامًا، ويرفع القواعد من البيت العتيق، فإذ بإبراهيم – عليه السلام – وولده يقيمان الكعبة المكرمة من قواعدها، بعد أن اختفى جزء كبير منها تحت الأرض، ويأمر الله إبراهيم بالأمر الأعظم، الذي بمقتضاه كان إبراهيم للناس إمامًا، فإن الله أمره أن يؤذن للناس بالحج، فسأل إبراهيم الله إذا كان ينادي فمن يلبي نداءه؟! والله قال: إن على إبراهيم النداء وعلى الله التلبية، وإن رأى أحدكم يوم عرفات لعلم عظمة إمامة إبراهيم.
وحين بعث الله محمدًا عليه الصلاة والسلام، كانت قريش بسنوات طويلة قد أعادت بناء الكعبة المباركة، وكانت قريش عازمة على أن تُبني الكعبة من خير المال، فطرحوا الحرام منه وكان كثيرًا، وأقاموا بحلال أموالهم الكعبة إلا جزءًا هو حجر إسماعيل الآن.
ولما جاء الله بأمره لنبيه بأن يدخل مكة، دخل الرسول مكة المكرمة بدون حرب تقريبًا، ولتقريب قلب قريش للإسلام لم يهدم الكعبة ويعيد بناءها، وظلت الكعبة المباركة المقامة حتي يومنا هذا غير الكعبة الأصلية في الحجم، وحجر إسماعيل الخارج من الكعبة الحالية في الحقيقة.. من صلى فيه، فإنما صلى داخل الكعبة المباركة التي أقامها إبراهيم عليه السلام.
(2)
ذات يوم قال لي أحد من يزعم أنه يعلم الله حقًا: كيف لا تحب موالد الأولياء وتفرح بزيارة الحرم؟ قلت له: كيف تتساوى لديك بيوت أوصى بها الله وكرمها ببيوت كرمها البشر ؟ وليتني في الحقيقة ما سألته لحظة واحدة.
حيث أوضح لمدة أربع ساعات أنه لا يحب المسجد الحرام، ولا يجد فيه روحانيات ولا روح، انما هو بناء في نظره لا يحمل أي نوع من أنواع الزهد والورع، واستكمل مقاله حتى تذكرت فجأةً في بالي قول الله عز وجل: أن طهرا بيتي… وقوله عز وجل: إنما المشركون نجس. وقوله تعالى: ومن اتخذ إلهه هواه. فابتسمت ابتسامة طويلة بعد ذلك.
قال لي: لماذا تبتسم هكذا؟ صمت قليلًا، ثم قرأت عليه القرآن، ثم تركته ومشيت.
(3)
في أحد أيام ضيق الصدر، وكنت وقتها حقيقةً لا أؤمن بحديث عدية يس، ولا زلت في الحقيقة لا أؤمن بحقيقة ذلك الحديث، بالأخص ما ورد حوله من أنه ضعيف وما بحثت فيه، ولكن في تلك الفترة من عمري وأثناء حيرة شخصية للغاية، وضيق في الحال، كنتُ أقرأ ياسين في المسجد الحرام لعدة مرات، قلتُ لنفسي: إنه أمر لا ضرر منه، وله منفعة التلاوة، وربما إذا كان به المنفعة الأخرى فرحمة من الله.
وبعد فترة ينقض الله ما فوق صدري من الهموم، وبعد فترة يأمر الله تعالى القدر ويجريه، الله الذي علمني ثم أرشدني ثم هداني بقدره، أتذكر جيدًا ما أثقل قلبي في تلك الأيام، ما جعل أيامي في تلك الفترة سوداء كالحة، وإذ بالله يبين لي الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الليل من ذاك اليوم للحظة الحالية.
إن ما استمسكت به وظننت بأنني أبقيه أبقاه الله وجعله مستقرًا زمنًا طويلة، حتى أذن له أن يرحل دون أن أقاسي ذاك الرحيل، الله يومها علمني أن الأشياء التي لا ضرر فيها، فلا ضررها لمنفعة، حين قرأت يس العديد من المرات، قرأتها متوكلًا بعمل، فما الله مٌحبط عملي، ولكن الله يرى عباده ما لا يعلمون من أمر الغيب، ولا زلت أقرأها في الشدائد، متوكلًا على عمل، مسند لله العمل والتوفيق.
(4)
الحرم المكي على اتساعه، يضيق بالناس وكثرتهم، ولكن ما لم أكن أفهمه حقًا: كيف أجد مكانًا في رمضان في الحرم النبوي! حيث إن الحرم في مرمي البصر قد امتلأ بشرًا، ولم يبق فيه مكان حتى لاستنشاق الهواء، وفي أيام رمضان تصبح الحركة العادية لجسد الإنسان مستحيلة، إلا أنه كلما جاء أحدهم قاصدًا إلى إحدى المصليات؛ وجد لنفسه مكانًا يتسع له، وكنا نحن جميعًا نضيق بالمكان الذي يتسع عندما نزيد نفرًا.
من عجائب ضيق حرم رسول الله هي الروضة نفسها، حيث إن الروضة جزء منفصل عن الحرم تقريبًا، وهي ما كانت ذات يوم بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومدفون بجواره صاحباه أبو بكر وعمر بن الخطاب، ولكن كلما ازداد الزحام في ذاك المكان؛ اتسع للخلق وكأنه بلا جدران، وحين يقف الناس ليصلوا ركعتين ثم يرحلوا، ليجدوا في ذلك المكان ما يتسع لألوف مثلهم، وهو بنظرة العين أمر غير مدرك.
ذات يوم سئلت نفسي، هل إذا أتى إلى حرم النبي أعمى، فهل سيحسب حقًا أن المسجد به جدران، أم هو عدة طوابق رفعها الله بلا عمد كما رفع السماء!
The post الذي ببكة مباركٌ appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست