الأربعاء، 31 مايو 2017

ثقفني اون لاين : الذين قتلتهم «الشيفتات»

لا أقصد بالذين في تلك المقالة سوى الصحافيين؛ لأن «الشيفت» الواحد عندهم يعادل اثنين أو أكثر في أية مهنة أخرى، هؤلاء الذين يؤثرون على أنفسهم طيلة اليوم ليبقوا على قيد الحياة، يتنفسون ولو كانت أنفاسهم تئن، وأبدانهم تنحدر بشدة نحو الضعف والارتخاء، هؤلاء الذين يحملون على أكتافهم أعباء السياسة والفن والاقتصاد والصحة والثقافة وما لذ وطاب من أية معلومة تحمل صفة «الحداثة» أو اقتلاع ضدها من «الأرشيف» حين الحاجة!

المهنة صحفي، والمجال في صاحبة الجلالة، وحقيقة أنا لا أعرف أية جلالة هذه تلك التي تجبر الصحفي المصري على العمل في بلاطها لمدة 16 ساعة يوميًا، عدا يوم في الأسبوع يُداوي فيه جراح الملابس المرهقة، ويزيح عن روحه ما كان من أرق، ويخلو بنفسه ليتفحص السواد القابع تحت عينيه أو عقله الذي طار منه ووقع في فخ «اللينكات»، 16 عشر ساعة في العمل الصحافي تعني الكثير، هذا الكثير الذي لا يعرفه إلا الصحافيون، لأنه أكَل من أبدانهم ونهش من أرواحهم ما يُدخل فيهم المعرفة قهرًا لا طوعًا!

المهتمون بالوسط يعلمون جيدًا أن الصحافي سعيد الحظـ، مَنْ دعت له والدته وأوصت جدته وجميع السيدات الكبار جيرانه بالدعاء له، هو الذي ينتصر على مؤامرة الكرة الأرضية ضد الصحافيين، ويدبر حياته بواسطة «شيفت واحد» لا يزيد، وأُحيطكم علمًا بأن سعيد الحظ هذا لم يقابلني إلى الآن إلا صدفة طيبة تدس الروح في قلبي المحتضر وتُنذر بأن هناك نورًا وسط العتمة القاتمة!

سعداء الحظ قليلون، لذا، فالتعساء مُرادنا ومقصدنا، مَنْ يعملون من الثامنة صباحًا حتى الثانية عشرة صباح اليوم التالي، سيبدو الحديث ساذجًا، لكن كل حقيقة في زمننا تقع تحت اتهام السذاجة، شيفتاتٌ تتراكم على كاهل الفرد، مجبرٌ لها ينصاع، حانيًا رأسه للقمة العيش ولو كانت تأكل هي من جسده، فالعمل في مؤسسة واحدة لن يُقيمه صلبًا شامخا أمام الظروف والمجتمع، لهذا كان حتمًا وجود الشيفت الآخر في المؤسسة الأخرى للبدن المهرول في صخب القاهرة وضجيجها المُميت وحده بلا حاجة لشيفتات!

ثمان ساعات للشيفت الواحد، تهيمُ فيها رؤوس الصحافيين بين كهوف الأخبار المحلية ومغارات الأخبار الدولية، بين كآبة أخبار الحوادث وسماجة أخبار المرأة والجمال، بين أنين الاقتصاد وعويل الثقافة، بين عصبية السياسة وليونة الفن، بين نور عيون «السوشيال ميديا» وفي أحضان أسماع «التوك شو»، بين كل معلومة تُقدَم في «لينك من ذهب» إلى القارئ الذي ربما في النهاية يلعن الكاتب والمكتوب!

تنتهي الثماني ساعات هذه لتبدأ شبيهتها تمام الرابعة عصرًا في المؤسسة الأخرى، ليبدأ الصحافي المسكين مشوار آخر يتطلب نفس الجهد السابق، لينتهي في الثانية عشرة صباح اليوم التالي، فيذهب إلى منزله، ومن ثمّ مرقده الذي افتقده؛ لأنهما لا يجتمعان حقيقة إلا في لقاءات موسمية، فيعانقه كما لو عثر على ضالته الشاردة منذ أمد بعيد، ينام المسكين ولو مكثت بجواره ليلة سيمتعك فيها ـ من فرط إرهاقه ـ بأعذب «السيمفونيات» التي تعزفها الحنجرة، ويا حبذا لو أخبرك مهلوسًا أنه قد مرر الخبر أو رفعه على الغرفة، أوطلب منك تغيير عنوان، وليس ببعيد أن تراه يُجري حوارًا صحافيًا مع أشباح الليل!

إذا كتب عليك الزمان يا سيدي أن تكون صديقًا لأحد هؤلاء التعساء، فلا تنتظر منهم اتصالًا هاتفيًا في الشدائد، ولا رسائل تهنئة في المناسبات، لا تنتظر منهم شعورًا بالمحبة أو الكره، بالاهتمام أو الإهمال، فمن المؤكد أن شعورهم قد مات في تحقيق، أو شرد في حوار، أو قبض عليه في تقرير عن حقوق الإنسان، فاطمئن للغاية، لن يعبأ شعور هؤلاء بك، فالأموات لا حول لهم ولا قوة، وهو في حكم الأموات!

إذا اختفى صديقك التعيس هذا لوقت طال أو قصر، لا تذهب إلى منزله ولا تحاول الاتصال به، عليك فقط بفتح غرفة الأخبار، وأعدك بأنك ستجد مُرادُك طريح الغرفة، ستلحظه ينقح تحقيقًا أو يقصر عنوانًا أو يعالج تقريرًا، ستراه منغمسًا في المقدمات والخلفيات، مُمسِكا بجسم الموضوع لا يبرح يتركه حتى يشتد عوده ويصبح صالحًا للنشر، ولا تنتظر منه حينها حديثًا عنك أو عن حياتك وهمومك، لأنه سيخاطبك سائلًا: «العنوان حلو ولا لأ؟»!

الحقيقة أن هؤلاء الذين يقعون تحت سطوة أجهزة الحاسوب طيلة هذه الساعات يستحقون الشفقة؛ لأنهم يحملون اسم مهنة لها صداها المؤثر في المجتمع، حتى ظن المجتمع أنهم لحقوا بذوي الطبقات ذات الثراء الفاحش والعفيف، وهم لا يعلمون أن الصحافيين في مصر مِمّن ينطبق عليهم قول الله تعالى «يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف»!

إنهم حبسوا أرواحهم في قفص معلوماتي وبحثي، ووهبوا أجسادهم للطرقات والمقاعد والهواتف، وانتشروا في المدائن يقتبسون حديثًا من هذا وذاك، وراحوا يداوون جروح المجتمع وهم جرحى منذ زمن ولا يداويهم أحد، وشدوا حبال الصبر على الرواتب الهزيلة مستمسكين محتسبين، هائمين بين مؤسسة في الصباح وأخرى في المساء، محدقين إلى الأجهزة كالمتصلبين، رضوا بالمهنة وساروا فيها وتوغلوا، أنهكتهم ساعات العمل الطويلة كل يوم حتى نحتهم جانبا بعيدا عن الحياة، جانبا مرهقا مذلا، وهناك في هذا الجانب.. قتلتهم «الشيفتات»!

The post الذين قتلتهم «الشيفتات» appeared first on ساسة بوست.



لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست