الاثنين، 1 مايو 2017

ثقفني اون لاين :  كيف يضع المستعمر بذورًا للانفصال 

عزف الجنوب مقاطعًا أخويةً طرِبت لها ساحاتنا بشمال

 بهذا المقطع الشعري اختزل أحد المغنيين من الشمال حبه لإخوته في الجنوب، لكن لم يكن يدري أن المشكل الجنوبي أعمق من أن يختزل في بيت شعر!

تتكون التركيبة السكانية لجنوب السودان من قبائل متعددة تتمايز فيما بينها، حيث يجمعهم اللون وتفرقهم عادات وتقاليد تدين بالولاء للقبلية، في أرض حباها الله بمناخ استثنائي حيث الكثير من الغابات الاستوائية، وجو ممطر أغلب العام منتجًا طبيعة غنية بالكثير من أنواع مملكة الحيوان في ظل تنوع بيئي فريد يغذيه شريان نهر النيل الجالب للحياة لينعكس في شكل غطاء نباتي يغطي معظم الأراضي الصالحة للزراعة، بينما تحتفظ الأرض لنفسها بالكثير من الخيرات في باطنها، كالنفط والغاز والذهب والكثير من الثروات المعدنية التي تشكل عصا موسى، تُهَش بها عجلة الاقتصاد الجنوبي.

 ولكن، بالرغم من كثرة هذه المنن التي قلما تجتمع في بقعة واحدة من الأرض نجد الإنسان الجنوبي لم يذق رغد العيش يومًا في ظل ظروف عصفت بالبلاد، حيث عاني في الماضي من موجات الخطف الممنهجة من قبل تجار الرقيق كما لم يسلم من اضطهاد البعثات التي تمر بأرضه لاكتشاف منابع النيل ليكتوي كغيره من البقاع الإفريقية بنَير المستعمر ليخوض بعد خروج المستمر حربًا طاحنة دارت رحاها زهاء الخمسين عامًا مع شعب الشمال انتهت بطلاق غير رجعي في صورة انفصال تشكلت على أثره جمهورية جنوب السودان، ولكن لما هذا البؤس والشقاء، وما هو دور إنسان الشمال في معاناة إنسان الجنوب.

و لماذا يكن سكان الجنوب هذا الكره لقاطني الشمال ذلك الكره الذي دفعهم دفعًا لانفصال نهائي لارجعة فيه، لكن لم تكن هذه إلا تراكمات لمجموعة أسباب بذرها المستعمر وحرثها إنسان الشمال ليحصدها إنسان الجنوب انفصالًا، ولكي نفهم هذه الدوافع التي أدت في النهاية لهذا الانفصال، يجب علينا أن نغوص عميقًا لفهم العوامل التي تسببت فيما آلت إليه الأمور.

الدين

بطبيعة المجتمعات المغلقة التي ترفض أي تغيير يأتي من خارج إطارها لاقت الأديان السماوية صعوبة كبيرة في التوغل داخل المجتمع الجنوبي الذي لم يكن قد اهتدى لعبادة إله واحد بعد مما فتح الباب واسعًا لانتشار الوثنية، حيث أصبح لكل قبيلة صنم تعبده وتقدسه مع اختلاف أشكال هذا المعبود ما بين الحيوان والجمادات والأحجار أو حتى الشمس، أو القمر أو الأفراد.

أول الديانات دخولًا كانت المسيحية، حيث كان التنافس المذهبي المسيحي في أوجه بين ملوك وأباطرة أوروبا في سعي كل منهم لنشر مذهبه فما طفق اتباع المذهب البروستانتي يوفدون المبشرين لنشر الدين المسيحي وبالمقابل يبذل الكاثوليك قصارى جهدهم في الإسراع بإرسال المبشرين عن طريق الرحلات البحرية.

والناظر للأمر يرى أن المسيحية لاقت رواجًا في المجتمع الجنوب سوداني لعدة عوامل، منها: أن المجتمع كان مهيأً لتقبل أي دين جديد لجهة أن الكثير منهم، كانوا لا دينيين مما سرّع من اعتناقهم لهذه الديانة الجديدة ومن العوامل التي ساعدت في دخول المسيحية للجنوب أيضًا المحيط الجغرافي حيث يحاط بدول كلها تدين بالمسيحية كاثيوبيا ويوغندا وكينيا حيث نجد أن معظم القبائل التي تسكن في هذه الدول لديها امتدادات في جنوب السودان؛ مما سهل على المبشرين  مهمتهم في ظل وجود لغات محلية ولهجات تتكلمها هذه القبائل على امتداد الحدود؛ مما أثر في نفسية الإنسان الجنوب سوداني الذي سارع بقبول هذا الدين الجديد الذي وفد إليه على لسان أقرانه في اللون واللغة والثقافة، وبالمقابل نجد المناطق الشمالية للسودان منفتحة أكثر على الحدود الشرقية حيث الجزيرة العربية وشمالًا حيث مصر وليبيا، وكلها دول وصلها الإسلام مبكرًا ناهيك عن كون الجزيرة العربية مهد الديانة الإسلامية أضف إلى ذلك وجود روابط اللغة العربية، بجانب اللهجات المحلية؛ مما سهل من مهمة دخول الإسلام لتلك البقاع، وتعلق قلوب السكان به؛ مما جعل من توغل الدين المسيحي أمرًا صعب المراس.

 أما في الغرب فيبدو الإقليم الدارفوري كقلعة إسلامية حصينة من الصعب أن تخترق في ظل هيمنة ممالك قبلية تدين بالإسلام على مناطق شاسعة من تلك البقاع، كل هذا ومع انتشار ممالك إسلامية أخرى في حدود السودان الغربية كمملكة وداي الإسلامية في بحيرة تشاد ومملكة السنوسيين في الجنوب الليبي ومملكة المنسي موسي الإسلامية في النيجر. كل هذه العوامل جعلت من الصعب أن تلقي الديانة المسيحية رواجًا في مناطق غرب السودان، لذلك مع مرور الوقت اتسعت الهوة بين المجتمع الجنوبي ومجتمعات الشمال السوداني؛ مما ساعد في تعميق الشقة بينهم، وجعل مسألة الدين عائقًا يمنع الاندماج الكلي بين المجتمعين، وذلك سيكون له بالغ الأثر مستقبلًا في نجاح سياسة  فرّق تسُد، التي انتهجها المستعمر لاحقًا.

فرّق تسُد

إذا كانت فلسفة الاستعمار الفرنسي تقوم على الاستلاب الثقافي، فإن هذه الاستراتيجية تجدها بريطانيا غير فعّالة في إخضاع الشعوب التي تسعى لاستعمارها، مذ أن وطئت قدم المستعمر  أرض الجنوب شرع مباشرة في تطبيق سياسة الفصل والتفرقة، حيث عمد إلى التقرب من زعماء القبائل والقيادات القبلية والسلاطين بغية استخدام نفوذهم لاحقًا في تثبيت أقدامه على هذه الأرض الجديدة، ومن جهة أخرى فقد استخدم البريطانيون نفوذ القادة القبليين لعكس صورة مغايرة تمامًا عن إنسان الشمال؛ لأنه لو اقتنع الزعماء أن سكان الشمال شر لا بد من تجنبه، فمن السهل أن يتخذ العامة لاحقًا مواقف عدائية ضد هذا العنصر، بمجرد أن استقر الأمر للبريطانيين في الجنوب شرعوا في تنفيذ سياسة المناطق المغلقة التي بموجبها تم إغلاق الإقليم الجنوبي تمامًا منعًا لاي تداخل بين إنسان الجنوب والشمال الذي من الممكن أن يفضي إلى انتشار الثقافة العربية أو حتى تسرب الإسلام إلى ذلك القُطر، ناهيك عن حدوث انسجام بين العنصرين؛ مما يشكل تهديدًا للمصالح البريطانية، ووفقًا لهذه السياسة كان ممنوعًا على المواطنين من شمال السودان أن يسافروا إلى الجنوب بإذن مسبق من الإدارة البريطانية التي حددت دواعي معينة تمنح بموجبها إذنًا لدخول الجنوب كالتجارة أو شغل المناصب الإدارية؛ مما جعل من الجنوب منطقة مغلقة ومعزولة عن الشمال بمرور الوقت.

لعنة النفط

مما لا شك فيه أن النفط أينما وجد جلب معه الغنى والرفاه والعيش الرغيد، ولكن النفط السوداني لم يجلب إلا المتاعب، فبعد اكتشافه سارعت شركة شيفرون الأمريكية للحصول على حق امتياز للاستكشاف والتنقيب والحفر وتشغيل واستغلال الآبار النفطية، وهو ما كان إلا أن التمرد الذي اندلع في الجنوب حال دون تحقيق الشركة لمكاسب مادية كبيرة ومع تقلبات السياسة السودانية غادرت الشركة سوق النفط السوداني بعد أن قامت بغلق آبارها بمواد صلبة، بحيث لا ينتفع منها مستقبلًا، مع خروج شيفرون دخلت الشركات الصينية كشريك اقتصادي قوي في سوق النفط السوداني، ولكن ما فتئ إنسان الجنوب يردد أن هناك عدم عدالة في توزيع عائدات النفط لجهة أن معظم المناطق الغنية بالنفط والآبار تقع في أراضيه، ومن هنا كانت اللعنة، حيث كانت أموال النفط تصب مباشرةً في خزينة الخرطوم مع أهمال واضح للبنية التحتية للجنوب وانعدام خطط التنمية في المناطق التي دمرت بيئيًا نتيجةً لعمليات استخرج النفط؛ مما ولّد شعورًا بالحنق لدى النُخب الجنوب سودانية الذين طالبوا بمشاركة أكبر في صناعة القرار ونصيب وافر من الثروة النفطية يقابل التضحيات التي قاموا بها ومن هنا نبع الخلاف الأساسي حول الثروة، حيث يرى المراقبون أنه كان هناك ظلم واضح فيما يخص توزيع العائدات النفطية واجهه إنسان الجنوب.

بريطانيا ترقص على حبال الاختلافات

قبل أن تدخل بريطانيا السودان كمستعمر كان لها علم بالطبيعة الجغرافية والديموغرافية والجيوسياسية لهذا البلد، لذلك ما إن وطأت أقدامها الأراضي السودانية، حتى بدأت بتطبيق سياسات موضوعة مسبقًا راقصةً على حبل الاختلافات التي تفرق بين المكونين الشمالي والجنوبي، وذلك لعلمها أنه إذا حدث توافق بينهما، فإنها لن تُعّمر في هذا البلد، ومن  هذا المنطلق سعت لتقويض أي جهود أو خطوات من شأنها أن تساهم في استقرار الوضع في السودان ضاربةً بعرض الحائط كل المشتركات الإثنية والثقافية التي من شأنها أن يكون لها دور في التقارب بين الإنسان السوداني جنوبه وشماله، حيث سعت لتأليب سلاطين القبائل الجنوبية على سكان الشمال بدعوى أنهم أتوا لإنقادهم من بطش الشماليين الذين يريدون أن يصطادوهم، ويقوموا ببيعهم عبيدًا في سوق النخاسة.

والناظر للشأن السوداني يرى أنه مع دخول العنصر العربي إلى السودان ظهرت فئة جديدة من السكان يحملون لون البشرة العربية تنكروا لجذورهم الإفريقية، واعتبروا أنفسهم سادة على أصحاب البشرة السوداء، والسكان الأصليين لأرض السودان، لذلك نجد بعض المجموعات والقبائل من شمال السودان، تعامل إنسان الجنوب معاملة لا تليق به كصاحب أرض للدرجة التي وصلت بالإنسان الجنوبي لاعتبار نفسه كمواطن من الدرجة الثانية في وطنه، ولكن في الآخر لا أرى أنه يجب تحميل المستعمر كل الوزر حيث كان لإنسان الشمال دور كبير في صناعة مشاعر الكره والتفرقة والشعور بالدونية تجاه إخوته في الوطن، لذلك بنى المستعمر سياسته على هذه العوامل لتنتج لنا في المحصلة انفصالًا بذر بذوره المستعمر، وقام إنسان الشمال على رعاية هذه البذرة ليحصدها إنسان الجنوب انفصالًا.

The post  كيف يضع المستعمر بذورًا للانفصال  appeared first on ساسة بوست.



لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست