إذا ما رحت تكشف في معجم الخيرات قديما حتى زمن قريب، فإنك تجد صفحة القرى والنجوع عنوانا للخير وروافده والأصالة التي غرسها المصري القديم في ذريته الممتدة إلى وقتنا هذا، والتي ورثتها له أمنا الأرض بكل مفردات الرجولة والشهامة والنخوة.
بيد أن السلطة المتجذرة منذ حداثة محمد علي، أبت إلا أن تفسد ذلك على الناس في قراهم ونجوعهم حين أورثت ما أورثت لبعض المنتفعين إقطاعات من الأرض لضمان الولاء للسلطان، وتسخير البعض من المستضعفين لبعض الكبار حتى استوحش الأمر؛ فصار القول والفعل بيد النخبة العشرينية (نسبة إلى القرن العشرين من ناحية، وإلى النسبة المئوية قياسا إلى عوام الناس حتى بدء القرن الجاري) تلك النحبة التي علمت أبناءها أن المدينة والمدنية هي المستقبل المفتوح وهي بوابة العولمة الحديثة؛ وغدا السباب الأعظم حين تسب هو قولك لآخر (أنت فلاح).
أذكر مرة أن ابنتي التي لم تبلغ عامها التاسع بعد سألتني مرة، لماذا يشتم الأولاد بعضهم بعضا بـ(أنت فلاح)؟ راحت تسألني بعدما سمعت حديثا لي مع أحد أصدقائي عن كيف كان دور الفلاح في مصرنا المحروسة في إمداد أهل المدينة أو (البندر) بلغة ما قبل الثمانينات من القرن الماضي، بكافة المنتوجات الريفية التي ينتظرها أولئك في السوق الأسبوعي للمركز.
لم يعد الفلاح فلاحًا، بل غدا مدعيًا للمدنية داخل قريته التي أمست كمثيلاتها من أشباه القرى بعدما شوهت البنايات الأسمنتية وجه خضرتها الجميل، وبعدما اعتلت أطباق القمر الصناعي أسطح منازلها، وأمسى قمرها متواريا في كبد السماء، فأضحى يصحو عند العاشرة، أو بعد طلوع الشمس على أحسن تقدير في جيل آبائه.
أصبت بفاجعة حين علمت أن أفران العيش المصري (تمييزا له عن الرغفان الشمسي، حسب تعبير أهل القرى في الجنوب) غزت قرانا، وأن أهالينا يصطفون لساعات ينتظرون دورهم كما هو الحال في مدن المحروسة!
وأذكر كم علمونا في المدارس أن نردد وراء المعلم أن مصر بلد صناعي لا زراعي، واستمرأنا ذلك وصدقنا حتى أصبحنا على لا شيء، لا هي زراعية ولا صناعية، نيلها ينذر أهله في الشمال بالجفاف، وزراع شاطئيه هجروا أرضه إلى بلاد الخليج فجفت الأرض وغيض الماء واستوى الهجران والإقامة وقيل بعدا للكادحين.
ثم كانت ثالثة الأثافي حين تمرد المسئولون وتخلوا عن مهام المسئولية والرعاية لتلك النجوع والقرى واستمرأوا أن تكون نسيا منسيا ما دام بعض أهل المدينة في أيام الزينة فرحين، وليتهم كذلك.
نسينا أيامنا الحلوة وأنسينا أنفسنا، حتى غدونا تائهين، فلا نحن من أهل القرى بخيراتها وسلمية أنفسهم وطيبة قلوبهم، ولا من أهل المدينة التي تقدر للقرية دورها في دعمها الغذائي اللا مسرطن، والذي لم تشوهه صوبات المزارع الاستثمارية.
إن الإهمال الذي ألم بقرانا في الصعيد خاصة لا يحيط به وصف؛ فها هم يشكون من تلوث مياه الشرب، أو ملوحتها وعدم صلاحيتها، الأمر الذي أصابهم بأمراض الفشل الكلوي والكبد وغير ذلك مما تنبئ به إحصاءات المشافي هنا وهناك، وتلك هي قراهم تخلو من الصرف الصحي الذي يحترم إنسانيتهم، وتخلو من أبسط توفير أساسيات التعامل اللائق من الأجهزة المحلية المعنية. ثمة سؤالان يترددان في مسمعي وأنا الفلاح المتجذر في عمق المدينة هما: أولًا،إلى أي مدى سيصل إهانة الفلاح في مقدراته وأبسط ضرورات إنسانياته هناك في قريته التي لم يغادرها بعد، ولم يزل متماسكا ببقية ما ورثه، حتى لا يغدو سباب أهل المدينة بعضهم لبعض: (أنت فلاح)؟ ثانيًا،
أيناك يوسف من عجاف قرانا ونجوعنا، وأيناك يا أرض من سنبلاتك قبل سبع مهلكات؟!
The post أنت فلاح؟! appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست