إن كتابات كثيرة كُتِبت عن حالة التردي الحضاري للأمة والبحث عن حلول لإخراجها من وطأة الهزيمة الحضارية التي مُني بها المسلم المعاصر، نتيجة لعوامل داخلية وخارجية لا تخفي تداعياتها على كل راصد ومتابع لمسار المرحلة، وما أفرزته من تحديات شكلت تهديدًا مباشرًا لكياننا السياسي والحضاري.
ومما لاشك فيه أن كل تراجع حضارى تَمرٌّ به الأمة يعتبر عند المسلم تقصيرًا حقيقيًا لأداء رسالته في الحياة، وقعودًا به عن استكمال شروط العبودية الحقة لله، والإقلاع الحضاري الذي ينشده.
لا أحد اليوم يشكك في أن الأمة اليوم تمرُّ بأزمة حقيقية، لذا نحن نحتاج إلى مداخل وتحديدات لمعالجة هذه الأزمة، والذي أصاب العقل العربي والإسلامي اليوم هو أنه في سعيه لمعالجة هذا التردِّى الحضارى الذي يعيشه، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي هو أنه ضيَّق مفهومه لهذا التراجع والتخلف الذي أدَّاه إلى ارتكاب ماحرَّم الله عليه، أوتقصيره عما فرضه الله عليه.
إنّ المعصية والذنب عند المسلم المعاصر اليوم لا تعدو أن تكون مخالفات شرعية خاصة به في حياته وذاته، فإذا ما ابتعد عنها يكون قد حقَّق مراد الله منه!
الأمر الذي انعكس في سلوكياتنا باعتبار أن هذه المعاصي هي السبب الحقيقي في تأخر النصر وتحقيق الإقلاع الحضاري المنشود.
وهذا تضييق لجانب العبودية الحقة، التي يسعى المسلم لامتثالها، عبر معالجة مواطن الخلل الذي تعاني منه الأمة، وترميم الفجوة التي يعيشها بين خير أمة أخرجت للناس وبين واقع يحياه لا يرى منه أية دلالة على هذه الخيرية.
وإذا تأملنا كتب السلوك التي تعالج التقصير في حياة المسلم نجد أنها ركَّزت على الذنوب الخاصة بالمسلم في زلات لسانه ونظرات عينيه وطريقة ملبسه.
لكنها لم تُوسِّع مفهوم المعاصي التي ينبغي على المسلم أن يكف عن ممارساتها، ولا على مفهوم العبادة التي ينبغي أن يتحلى بها من قيم الحرية والعدل والمساواة وإبداء الرأي والنصح والتشاور والحفاظ على المواعيد وتجنب الكذب والحرص على عدم الغش والغدر والخيانة.
إن علينا أن نضغط باتجاه إحياء قيم العدل والحرية والشورى ليس باعتبارها قيمًا حضارية فحسب، بل باعتبار أن غيابها يمثل عقوبة إلهية لا تقل عن معصية الزنا وتعاطي المخدرات وسرقة أموال الناس.
بل إن غياب قيمة واحدة كالحرية كما قال ابن خلدون كفيل أن يخرج لنا إنسانًا يفتقد لأدنى درجات الإنسانية، فضلًا عن أن يكون له أدنى دور في بيئته ومَنْ حَوْلَه.
يقول ابن خلدون: «ومن كان مرباه بالعسف والقهر سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل، وحمله على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفـًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وتعلّم المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقـًا، وفسدت معانى الإنسانية التي له، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالًا على غيره في ذلك، بل كسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين».
فأنت ترى أن النفس التي نشأت على القهر والتسلط أصبحت نفسًا مشوهة وعاجزة، ولا تستطيع أن تسهم في دور مَا لأمتها ولا للإنسانية من حولها.
وغياب مثل هذا المفهوم ينسحب على إنسان الحضارة العربية والإسلامية ليس فقط بانسحابه من هذا المجتمع، بل يصبح به متعرضًا لغضب الله وسخطه عليه.
لما جاء المهاجرون من الحبشة سألهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ قال فتية منهم: بلى يا رسول الله بينا نحن جلوس، مَرَّت بنا عجوز رهابينهم، تحمل على رأسها قُلَّة من ماء فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرَّت على ركبتيها، فانكسرت قُلَّتُها، فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين واﻵخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، كيف يُقَدِّس الله أمةً لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم» سنن ابن ماجة وغيره.
فأنت ترى هنا اهتمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإبراز خطورة هذا اللون من الظلم الاجتماعي، وأنه سبب آكد في عدم تطهير الله وتقديسه للأمة التي تمارس هذا اللون من الظلم الاجتماعي.
إن الإسلام مليء بالنصوص التي تشجب هذا اللون من المظالم الاجتماعية والمعاصي الحضارية التي تقف في طريق المسلم وتكبله عن الإقلاع الحضاري المنشود، وما لم يسع مسلم اليوم للاهتمام بها واستحضارها فسيرسف في أغلال التخلف والمعاناة، كما أنه سيكون محرومًا من التوبة المأمور بها من ربه، والتي أثنى الله على أصحابها فقال تعالى: «إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين» البقرة آية 222.
والتوبة لا تكون فقط من المعاصي الشخصية والذاتية، بل أيضًا تكون من المعاصي الحضارية التي لم يلتفت لها المسلم، ولم يُعِرْها أي اهتمام يُذْكَر، وما ذِكْرُ القصة التي رآها الصحابة رضي الله عنهم وتعجبوا منها في أرض الحبشة إلا مثالًا لخطورة ما نحن نمرُّ به من الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي الذي تعانيه الأمة اليوم، فلم تتحرك كما لم يتحرك ذلك المجتمع الحبشي لرفع هذه الأغلال؛ فحرمهم الله جميعًا من التقديس والتطهر وأبسلوا بما كسبوا.
إن المعاصي الحضارية هي ذنوب حالها حال ترك الصلاة وشرب الخمر والنظر إلى ما حرم الله، يؤثم مرتكبها شرعًا وتوجب الاستغفار والتوبة.
إن النتائج التي ترتبت على المعاصي الحضارية ليس عدم التقدم والنهوض وملاحقة الركب الحضاري فحسب، بل هي توجب عدم التطهر والتقديس ومن ثم عدم الفلاح والتقوى وتحصيل مرضاة الله.
إن الذي ينبغي أن يستقر في ذهن المسلم اليوم أن الإسلام وكما يقول الأستاذ محمد أسد في كتابه الإسلام على مفترق الطرق: «بناءٌ تام الصنعة، وكل أجزائه قد صيغت ليتمم بعضها بعضًا، ويشدُّ بعضها بعضًا، فليس هناك شيء لاحاجة إليه، وليس هنالك نقص في شيء).
وإن التقصير المعرفي أو السلوكي في جانب من جوانبه يؤدي إلى هذا التردي ويعيق الأمة عن استكمال أسباب نهضتها التي ترجوها.
The post المعاصي الحضارية.. نحو أخلاق تستهدف الأزمة appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست