كل شيء غدا بالأمر الواجب النفاذ، لا يستطيع أحد أن ينطق إلا ما خُط له وكُتب عليه، فإن لم يفعل أو توانى فليتحمل وقع السياط على جلده، ومرارة قطع الأرزاق وتلفيق الاتهامات زورًا.
يستبين الأمر في إقرار وزارة الأوقاف قرار تعميم «الخطبة المكتوبة»! ومفاد ذلك القرار؛ أن يُبعث للخطيب ما يتلوه على الناس وهو معتلٍ منبره يوم الجمعة في وريقات.
واختلف أهل الذكر في الجهة التي تبعث بالخطبة المكتوبة على آراء؛ لعل أهمها هو ذلك الرأي القائل بأن الخطبة تبعث من «جهة سيادية». مكتفون أصحاب ذلك الرأي بهذا القدر من التوضيح حتى لا «يُشدون» كما «شُدّ» من قبلهم.
وليس من العجب أن أشاد بالقرار عمائم لها وزنها في سوق التملق الديني؛ ممن لا يحفظون إلا «سمعنا وأطعنا»، ولا يعرفون إلا اتباع أي أمر سلطاني وإن كان مهلكًا في الدارين الدنيا، والآخرة.
وقد خرج مذيع له سابقات معدودات في «تسليم» ضيوفه الذين يحلون عليه في برنامجه؛ فَرِحا بذلك القرار مشرقًا وجهه كفلقة قمر. ولكن الفرحة لم تكتمل! إذ أفسد -كعادته- تلك الفرحة المبهجة بأن أبلغ عبر برنامجه عن خطيب مسجد ببني سويف لم يلتزم بتلك الخطبة المكتوبة.
ومن عجب؛ أن ذلك الخطيب لم يبد تململًا من قرار الأوقاف بكلمة أو بحرف، وكذلك لم يُقم الخطبة كاملة برهنة على صواب قرار الأوقاف الصائب، فقد قال الرجل ما ينفع الناس في أمور دينهم وأنهى، أو لم يقل ما ينفع وأنهى أيضًا .
فأردف المذيع غاضبًا: «دا يتجاب ويتأدب.. عشان كدا قلة أدب».
وبلا ريب أن يكون بين المصلين الذين يستمعون الخطبة المكتوبة في كل جمعة؛ عينًا يجب تبصر الورقة بيد الخطيب وأذنًا تتمايل طربًا لسماع الخطبة التي حفظتها تلكما العين والأذن عن ظهر قلب، وجعل صاحبهما نسخة ورقية منها في جيب «الچاكيت» الطويل ذي اللون الداكن؛ اجتنابًا لأي خطأ أو سهو أو نسيان أو محاولة الإمام تغيير جملة أو خروجه عن النص المسطر.
ذلك هو المشهد، غير أنه ليس برمته، فما خفي كان أعظم، وتحت السواهي تكن -دائمًا- الدواهي.
ولكن؛ دعنا نكن موضوعيين وفنيين إلى حد ما.. فهل بقرار تعميم وزارة الأوقاف الخطبة المكتوبة تستنير أفكار الخطباء وتتسع أدراجهم لمخالفيهم؟ وهل سعت الوزارة لذلك أم إنها فرضًا للكلمة الواحدة جعلت ذلك القرار؟
هل بذلك القرار يتجدد الخطاب الديني الذي يظل قائمًا على أشياء ما أنزل الله بها من سلطان تنفر من الدين وتنتقص من قدره؟
هل بالخطبة المكتوبة تعالج مشكلات فهم النصوص والترجيح بين الأدلة ومعايير القبول والرد إن اختلفت الآراء؟
إن ذلك القرار ما هو إلا سعي حثيث على سبيل فرض الرأي الواحد، وتجريم الإبداع الدعوي، وعدم رؤية إلا لما يراه «عاشور الناجي اسم الله عليه اسم الله عليه»، وتحسبًا لأي كلمة قد تخرج من هنا أو من هناك، فغلقُ الباب أفضل من تركه مشرعًا على مصراعيه «وخبطة بالمرزبة ولا عشرة بالشاكوش».
الخطبة المكتوبة.. إفلاس مبين
وإن كانت الأمور ستصير إلى جعل الخطيب كالكاسيت؛ يقول ما يسجل له في الورق الذي بين يديه، فإني أرى أن يلغى نظام الخطابة ويحال جميع الخطباء إلى التقاعد، وليقم الراديو بإذاعاته بنقل الخطبة عبر الأثير من ذلك المسجد الذي يتنزل على خطيبه الخطب المكتوبات، ولتوفر الدولة أموالًا تنفقها وجهودًا تبذلها لوزارة الأوقاف.
إن أمة تخشى الكلمة؛ لهي أهشُّ من قشرة بيضة من بيض وزارة التموين، ولن يستطيع أحد أن يُكره عقلًا أو يُرغم قلبًا أو يمحو فكرًا .
فالأمر كما قال الفيلسوف الهندي «طاغور»: «لا يمكنك اقتلاع عبير زهرة ولو سحقتها بقدميك».
فدعوا العقول والقلوب والأفكار لذويها، وأفضوا أنتم إلى خطبكم المكتوبات، واجعلوها قائمة على التملق والنفاق والكذب .
وكما قال رالف والدو إمرسون: «ليس لشيء خارج ذاتك سيطرة عليك».
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
The post وقوموا إلى صلاتكم.. يرحمكم الله appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست