يَقول: إذا كان الله غَني عن عِبادة العابِدين وطاعة الطَّائِعين، فلماذا أمَرَنا بعِبادته وطاعته، بل جَعل ذَلِك غاية الخَلق؟
والجَواب: أن كَونه تَعالى غَني عن عِبادتنا فمِن المُسلَّمات البَديهيَّة؛ إذ كَيف يُمكِن لمَن خَلَق الكَون مِن عَدَم أن يَحتاج له أو يعوذه شَيء مِنه؟! بَل الكَون هو الَّذي يَحتاج له في صَغير الأمر وكَبيره، يَقول تَعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّة المَتِينُ»[1]، وفي هذا المَعنى قال نَبي الله مُوسى: «إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن في الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ».
إذن فهذا التَّساؤُل يَتعارض مِن الأساس مع فِكرة الإيمان بوُجود الله، لأن الله مَوجود بذاته فلا يَحتاج إلى غيره.
يَعود فيَقول: ولَكِن لا بُد أن يَكون مِن وراء ذَلِك حِكمة، فما هي؟
1- العُبوديَّة صِفة مُلازِمة لنا
الحَقيقة الأُولى الَّتي يَجب الاِنْتِباه إليها هي أن صِفَة العُبوديَّة مُلازِمة لنا قَسرًا بحُكم أنَّنا مَخلوقون، فالكائِنات اِحْتاجت الخالِق في نَشأتها وتَحتاج إليه في بَقائها، وعلى ذَلِك فإن البَشر جَميعهم عَبيد لله شاءوا ذَلِك أو أبوا، غير أنَّه تَعالى مِن تَشريفه لبَني آدَم أن مَيَّزهم بالعَقل وأعطاهم الإرادة الحُرَّة في الإيمان أو الكُفر به «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، ومِن الطَّبيعي أن يَتحمَّل البَشَر نَتائِج اِخْتياراتهم في الآخِرة، لأن كُفرهم سَيَترتَّب عليه مَفاسِد وظُلم «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا»، وإيمانهم سَيَترتَّب عليه مُجاهدة وصَبر «لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ».
2- العِبادة هي الحُب
في كِتابه الجَواب الكافي لمَن سأل عن الدَّواء الشَّافي «الدَّاء والدَّواء» تَعرَّض ابن قَيِّم الجَوزيَّة إلى مَراتب الحُب، وكان مِن كَلامه ما يَلي:
«وخَاصِّيَّة التَّعَبُّد: الحُب مع الخُضُوع، والذُّل للمَحْبوب، فمَن أَحَب مَحْبُوبًا وخَضَع لَه فقَد تَعَبَّد قَلبه لَه، بَل التَّعَبُّد آخِر مَراتِب الحُب ويُقال لَه التَّتيُّم أيضًا… فالعَبْد هو الَّذي ذلَّله الحُب والخُضُوع لمَحْبوبه، ولهَذا كانت أشْرَف أحْوال العَبْد ومَقاماته في العُبُوديَّة، فلا مَنْزِل لَه أَشْرَف مِنها.»
3- العِبادة في مَفهومها الواسِع
العِبادة – في مَفهوم الإسلام لها – لا تَعني فَقَط «الشَّعائِر التَّعبُّديَّة» مِن صَلاة وصيام وزَكاة وحَج… إلخ، بل تَشمل كُل قَول أو فِعل يَقوم به الإنسان «قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ»، بل فاجأ رَسول الله – صَلَّى الله عليه وسَلَّم – الصَّحابة بقَوله: «وَ في بِضْع أَحَدِكُم صَدَقَة». قالُوا : يا رَسُول الله ، أَيأْتي أَحَدُنا شَهْوَتَه يَكُون لَه فيها أَجْر؟ قال: «أَرأَيتُم لَو وَضَعَها في الحَرام أَكان عَلَيه فيها وِزْرٌ؟ فَكَذَلِك إِذا وَضَعَها في الحَلال كان لَه فيها أَجْر».
4- التَّقوى تَتَحقَّق بالعِبادة ويَترتَّب عليها الفَلاح
إذا تَدبَّرنا القُرآن وَجدنا إن عِلَّة العِبادة تَحقيق التَّقوى، وغاية ذَلِك الفَلاح في الآخِرة.
يَقول تَعالى:
«يَا أَيهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»
«يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ وجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»
5- السَّعادة والطُّمَأنينة تَتَحقَّقان بالعِبادة
كذَلِك فإن السَّعادة والطُّمَأنينة لا تَتَحقَّقان على الحَقيقة بغير عِبادة الله عَز وجَل والاِمْتِثال لأوامِره، وأنَّى يَجد المَرء السَّعادة والطُّمَأنينة وقد كَفَر بخالِقه وحاد عن طَريقه المُستقيم!
والآيات في بَيان هذا الشَّأن كَثيرة؛ مِنها قَوله تَعالى «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكـًا»، ونَقيض أولئك هؤلاء «الَّذين آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ».
ويَقول تَبارك وتَعالى «إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا المُصَلِّينَ».
6- للعِبادة فَوائد أُخرى
قُلنا إن العِبادة تَكريم وتَكليف مِن الله لبَني آدم، وتَبيَّن أنَّها المَحبَّة في أسْمى مَراتبها، وظَهَر لنا أن مَفهوم العِبادة أوسع مِن أن يُحصَر في نِطاق الشَّعائِر التَّعبُّديَّة، وأن التَّقوى الَّتي هي السَّبيل إلى الفَلاح في الآخِرَة لا تَتَحقَّق بغير العِبادة، بل إن السَّعادة والطُّمَأنينة في دُنيانا لا تَتَحقَّقان على الحَقيقة بدونها، ومع ذَلِك فإن للعِبادة فَوائد أُخرى؛ نَفسيَّة واِجْتِماعيَّة وطِبيَّة وغير ذَلِك، ويَستطيع مَن أراد تَفصيلًا أن يَجد مِئات الكُتُب والبُحوث في هذا الباب.
_____________________________________________________________________________________________________
[1] انظُر كَيف رَبَط تَعالى بين كَونه خَلَقنا لنَعبُده و بين كَونه غَني عن عِبادتنا.
The post لماذا نَعبُد الله؟ appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست