الأحد، 31 يوليو 2016

ثقفني اون لاين : العَدوى: قراءة في رواية أولاد حارتنا

بعد تحطيم كثيرٍ من أغلال التَّبعيةِ والتقليد، بدأتُ بقراءة رواية أولاد حارتنا، المثيرة للجدل، للأديب المصري نجيب محفوظ قبل أسابيع. وفي الأمس القريب، قبل أيام ربّما، تابعتُ في اليوتيوب لقاءً قديمًا مع الشيخ حازم أبو إسماعيل كان قد جرَّم فيه الرواية وادّعى أنَّ «فيها اتهام للأنبياء بأنهُم مُعربِدون».

ولا عجَب في موقفِهِ هذا، إذ أنَّهُ لم ينفرِد به. فقد سبَقَهُ إليه مشايِخ كُثُر، مِثل محمّد الغزالي، وأيضًا مؤسسات دينية كُبرى مِثل الأزهر.

لا أحِبّ أن أطيل الرَّد أو التوضيح في هذا المقال، فهذا بالتأكيد ليس مقالًا هدفُهُ الردّ على هذه الدعاوى. إنَّما هُو يهدِف بشكل رئيسٍ إلى تسليط الضُّوء على مسألة خطيرة باتت تملِكُ على كثير من النَّاس عقولهُم، وتُضطرُّهُم إلى التسليم المُطلق والسجود على أعتاب كُلّ مُدَّعٍ، فقط لأنَّ هذا المُدَّعي يضَعُ عمامةً أو يلبَسُ لحية. هذه المسألة هي بالضَّبط ما يُعرف بالجَهل المُقَدَّس.

وأحِبُّ أن أُلقي الضَّوء على دعوى أبو إسماعيل التي أشرتُ إليها في البداية، فأكاد أجزِم أن مُعظم النَّاس الذين يُسلمون قياد عقولهِم لأمثال الشيخ سالف الذِّكر، لم ولن ينتابَهُم شكٌّ قليلٌ أو كثير في كلامِهِ ضِدّ أولاد حارتنا. هُم سوفَ يتلَقَّون هذه الدّعاوى وكأنها نزلت من السماءِ وحيًا ليلة القدر، تمامًا كما فعَل ذلك الشابّ الذي حاوَلَ اغتيال نجيب محفوظ قبل سنين بعد أن قرأ فتوى محمّد الغزالي وغيره ضِدّ الرواية.

مسألة الجَهل المُقدَّس، في نظري، ليست محصورةً فقط في فئة معينة. بل هي ظاهرة عامّة متَفَشِّية حتّى في المؤسسات الحامِلة للواء الدين والفِكر. فالشيخ أبو إسماعيل، على سبيل المثال، في لقائه التلفزيوني برَّرَ تجريمهُ للرواية بأنَّ الأزهر جرَّمها أيضًا! ولرُبَّما كان تجريمُ الأزهر، كمؤسسة دينية، للرواية مُعتمِدًا على تجريم وقراءة شيخ الأزهر أو أحَد مشايخهِ الكِبار الموثوقِ بهِم!

لذلك، فالمُتأمِّل لهذا المشهَد العجيب يعلمُ أنَّ هذا المنطِق الجاهليّ يُشبِهُ العدوى، أو السَّرطان ربّما. فإنَّ حلَقاتِهِ تتابَع بصورةٍ متسارعة لا يُمكِن السيطرة عليها غالبًا. الشيخُ الأكبر يُجرّم رواية، فتتبعهُ مؤسسة كاملة ثِقةً بهِ وبمقامِهِ العلميّ، ثُمَّ يتبعُها مشائخ كِبار، ثمَّ يُسلِّمُ لهُم عامَّةُ الناس!

كُلُّ أولئك، في الغالِب، لم يقرؤوا الرواية التي تمّ تجريمها، بل اعتمدوا على قراءة وتحليل الشيخ الأوَّل ومن تبِعَهُ. وهذا بالضَّبط ما لمَّحَ إليه أبو إسماعيل، عن غير قصدٍ أو وعي، في لقائه.

هذه اللعنة، لعنة الجهل المُقدَّس والتَّبعيّة الحَمقاء، يُمكِن أن تزول. فقط يتكَفَّل بإزالتِها عقارٌ جيِّدٌ، نسِيَهُ مُعظم الناس، ألا وهُو القراءة الموضوعية. تلك القراءة التي يبني على أساسِها كُلُّ أحدٍ رأيهُ وتحليلهُ المُستقِلّ.

لا شكَّ أنَّ معظم الناس يستصعِبون هذا الخيار، ويرَون أنّ هذا العقار مُرٌّ جدًا. والحقُّ معهم. رُبَّما يرى مُعظمنا ذلك لأنَّنا اعتَدنا التَّقليد! فالتَّبعية مغريةٌ وسهلةٌ جدًا، كُونَها دخَلت في تركِيبِ الطِّينة الأولى التي جُبِلنا مِنها.

القضيَّة كُلها، في نظري، تتبرَّر في أننا لم نتربَّ على الاستقلالية الفكرية. بل تربَّينا على السَّمع والطاعة، وعلى مقولات تُلغي العقل وتقتُل التفكير والإرادة الحُرَّة، مِثل: «وإن ضرب ظهرك وأكل مالَك، فاسمع وأطِع!».

القراءة الموضوعية هي الطريق الصَّعب. هي الطريق الثَّوري الشاقّ الذي لا تُريدُهُ غالبيَّةُ الناس، ولا تُحسِنُ احتمالَهُ. لذلك كانت مهَمَّة الثُّوَار الكِبار والأنبياء المُصلِحون صعبةً ومُرهقة. ولا عجَبَ أنها غالبًا ما انتهَت إمّا بقَتلِهم وصَلبِهِم واغتيالهِم، وإمّا بتشويهِ صورَتِهِم وحَظرِ تعاليمِهِم، أو تحويرِها، بعد موتِهِم.

وحتَّى لا أنتهي قبل أن تتّضح المسألة بخصوص دعوى أبو إسماعيل، فإنني أكتفي بالقول بأنَّ القارىء الموضوعيّ الجادّ الذي قرأ الرواية فعلًا، ولم يكتَفِ بلَعِبِ دَور الماعِز إذ ترغُو خلف راعيها، يعرِفُ أنَّ هذه الدَّعوى فارغة تمامًا وغير صحيحة! ويعرِفُ أنَّ الأنبياء في الرواية لم يكونوا مُعربدين، بل ثوَّارًا محبوبين يقِفون ضِدّ عربدة المُعربدين والبلطجيّة في حارة الجبلاوي.

ولكن، كما أوضَحت، وجود هذه الدَّعوى ومثيلاتها طبيعي جدًا، فنحنُ نعيش ضِمن قطيع ضخم، وأمامنا طريقان لا ثالث لهُما: إمّا أن نرغو مع الرَّاغين، وإمَّا أن نثور ونقرأ. من يختار الطريق الأول يعيشُ هانئًا راضيًا عن نفسِهِ وعقلِه. ومن يختار الطريق الثاني فعليه أن يعِي خطورة قرارهِ ويعقِد العزم على أن يتحَمَّل وعورتَهُ وثِقَل القلق الفكري والشَّك الذي رُبَّما يُهلِكُهُ نفسيًّا.

فالفرق بين الطريقَين يتلخَّصُ في جُملةٍ حكيمةٍ كَتَبَها الفيلسوف البريطاني الشَّكّاك برتراند راسل: «مشكلة العالم بِرٌمّتِهِ هي أن الحمقى والمتعصبين واثقون جدًا من أنفسهم، والحكماء تملؤهم الشكوك».

The post العَدوى: قراءة في رواية أولاد حارتنا appeared first on ساسة بوست.



لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست