لدول الغرب تاريخ عريق في النفاق، فيما يخص الديمقراطية، والحريات، وحقوق الإنسان. وإذا كان قسم من النخبة المثقفة في الشرق قد عرف الدرس ووعاه، فإن من طبيعة الشعوب النسيان؛ لأن الشعب كائن متجدد باستمرار، وآخره لا يهتم كثيرًا بما قال أوله، أو عاناه؛ بما أنه نفسه لم يعانه، وأبسط مثال على ذلك موقف الغرب من الانقلاب «العسكري – الكهنوتي» في مصر، وما تبعه من مذابح واعتقالات، والذي لم تمر عليه سوى ثلاث سنين، ولكن يبدو أن كثيرا ممن أدانوه، ويدينونه، كادوا ينسون النفاق الغربي الذي رافقه.
ثم هاهي محاولة الانقلاب في تركيا؛ لتذكرنا مجددًا بذلك النفاق؛ صمت مريب في الساعات الأولى للانقلاب، ثم إدانة؛ عندما ظهر فشله، تبعها تباك على مصير الانقلابيين الذي أهانوا الديمقراطية وسفكوا الدماء.
لن يفيد الصراخ والعويل وشجب النفاق الغربي، ولا حتى افتضاحه بالأدلة القاطعة؛ لان هناك قاعدة في هذا المجال، وهي أن المستفيد لن يلتفت للفضيحة؛ إذا لم تتبعها مسائلة قانونية، وحساب وعقاب، ولذا، فدول الغرب، والأنظمة الاستبدادية، لا تهتم إن كُشف عن نفاقها؛ مادامت صفقتها رابحة، وبقيت خارج طائلة القانون.
فضائح الدول الديمقراطية لن تفيد أحدًا، إلا التنظيمات الإسلامية المتطرفة، التي تعتبر أن الديمقراطية (عقيدة كانت، أو مجرد إجراءات) كفر، وأن البرلمان تشريع من دون الله، وأن الانتخابات عبث، ومضيعة وقت، وتخدير للمسلمين. فكل فشل لعملية انتخابية أو مسيرة ديمقراطية تقوي أفكار تلك التنظيمات، وتهبها مجانًا موالين ومؤيدين. وقبل ذلك كانت تلك لعبة التنظيمات اليسارية المتطرفة في الإفادة من فشل الديمقراطية في تجنيد الأنصار.
ما يفيد الشعوب والأحزاب هو الصدمة التي تجعلها تنتبه لما هو أهم من الشجب والفضح، ألا وهو الإجراءات العملية التي تجيب على السؤال التالي: كيف يمكن إدامة العملية السياسية، دون الخوف من الانقلاب عليها؟
في المحاولة الانقلابية الأخيرة، في تركيا، ظهر واضحًا أن التفات الشعب، أو ـ على الأقل ـ أعضاء ومؤيدي الحزب الحاكم، حول القائد، والحزب، كان من الأمور الحاسمة، غير أنه لم يكن الأمر الحاسم الوحيد؛ فقد كان في مقدور العسكر القتل أكثر مما قتلوا، مع وجود «شيك على بياض» لهم من الغرب؛ بالتعامل معهم بعد نجاحهم، وبإفلاتهم من المساءلة، وقد كان لهم في مصر أسوة سابقة، وعلى هذا كان أحد الأمور الحاسمة الأخرى هي وقوف قطاعات من الجيش ضد الانقلاب، ووقوف المخابرات والشرطة، بالسلاح، في وجه الانقلابيين.
ما الذي يمكن لتجربة تركيا أن تفيدنا؟ ببساطة: يجب أن تكون الديمقراطية مسلحة، وكانت هذه تجربة مصر أيام الانقلاب أيضًا، لكنها أيضًا تجربة الغرب نفسه، فقد كان الغرب يعلن دفاعه عن الديمقراطية والحرية أثناء تصديه لهتلر ونازييه: ألم يقل الرئيس الأمريكي «فرانكلين روزفيلت» أوائل الحرب العالمية الثانية أن أمريكا هي ترسانة الديمقراطية The Arsenal of Democracy ؟ قال ذلك وطبقه عمليًا بإمداد الحلفاء بالسلاح، حتى قبل أن تدخل أمريكا الحرب، بل إن تعبير «ترسانة الديمقراطية» يرجع إلى أبعد من ذلك، وبالتحديد أواخر الحرب العالمية الأولى.
لكن الديمقراطية المسلحة هي قديمة قدم الديمقراطية نفسها؛ فبواكير الديمقراطية الحديثة، ديمقراطية ذلك الزمان المتمثلة في صراع النبلاء والتجار والأساقفة (وكان أولئك يعادون «الكثلكة») في إنجلترا واسكتلندا ضد الحكم الفردي للملك «تشارلز الأول»، لم تكن لترى نور الانتصار، لولا سلاح أولئك النبلاء والتجار؛ فقد كانت الحرب مدخلًا لتقليص سلطات الملك، وهذا التقليص هو مدخل ضروري للديمقراطية، أيا كان نوعها.
وفي عصرنا الحاضر يمارس «حزب الله» في لبنان لعبة القوة؛ لأنه لو لم يكن له ذلك السلاح لكان تحجيمه سهل، وإن كنا نعرف أن حزب الله يملك السلاح لأمور أخرى غير حماية الديمقراطية.
والقاعدة العامة للسلطة هي أن السلطة لعبة القوة التي لا يبقى في ساحتها، إلا القوي، والديمقراطية هي من تلك السلطة، فلا مكان فيها، إلا للأقوياء. ولخلق الديمقراطية يجب الحفاظ على التوازنات بالكيفية التي تطلب الديمقراطية نفسها التوازن بين السلطات الثلاث، مع فرق أن التوازن المطلوب لديمقراطية مبتغاة في بلاد الإسلام هو أكبر من مجرد توازن السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ هو توازن بين الأحزاب، وقبل ذلك التوازن بين كل الأحزاب من جهة، والجيش والشرطة من جهة أخرى، وتوازنات أخرى تخص رجال الأعمال والإعلام. المهم في الأمر هو أنه حيثما يفقد التوازن بين القوى، فلن تكون هناك ديمقراطية، فالديمقراطية ليست ذلك الحمل المسالم؛ لأنه لها أنياب ومخالب. وأكثر من هذا؛ هي أحيانا الجزار نفسه.
دروس الماضي والحاضر توضح بما لا لبس فيه أن على الحزب الذي يعمل في بلاد المسلمين (وغيرهم ممن ينظر إليهم الغرب كغير أهل لديمقراطية تشابه ديمقراطيتهم) أن يضمن قوة مسلحة تحميه من أي انقلاب، وبغير هذا عليه أن ينتظر وقوع ذلك الانقلاب إن مد رجليه لأطول من بساطه.
لكن، ألا يؤدي ذلك إلى ما هو أشر من الانقلاب، أي الحرب الأهلية؟ هذه حالة واردة فالقوة المسلحة ليست للردع فقط، بل أيضًا للاستعمال. والديمقراطية المسلحة تحمل أيضًا خطر الاتكال على السلاح، وليس الاعتماد على الشعب أو المؤيدين، وبذلك فالاحتمال كبير في أن تتبنى الديمقراطية المسلحة نمط التفكير الذي يستخف بالشعب، كما هي حال التنظيمات الإسلامية المسلحة المتطرفة التي لا تؤمن، إلا بالسلاح طريقًا لانتصار الإسلام، ولذلك فهي تستخف بالعمل السياسي أو الحراك الشعبي.
الشيء الذي صب في مصلحة «حزب العدالة والتنمية» التركي هو تزاوج الشارع والقوة المسلحة، لكن ما جمع بينهما وأعطى الشرعية لاستعمال القوة المسلحة وجود الحزب في موقع الحكم؛ نتيجة لانتخابات ديمقراطية قبلها الجميع، أي أن شرعية الحكم أعطت الشرعية لاستخدام السلاح، وهذه ليست حالة حزب إسلامي خارج السلطة يتم الانقلاب عليه بعد ظهور نتيجة الانتخابات، لكنها حالته عندما يكون في الحكم.
لو كانت هناك ديمقراطية إسلامية مسلحة في مصر، ربما لم يكن ليقتل أكثر ممن قتل الآن، وقد يقال إن ما حصل من قتل واعتقال للفائز الإسلامي في الانتخابات كان أفضل؛ حتى تكون حجة للإسلاميين، لا حجة عليهم، لكن الحجج لا تصنع سلطة، ومهما كانت الحجة قوية فهي لن تغير المصير المتوقع (القتل والسجن) لمن لا يملك قوة يفرض بها إرادته الطيبة (أو الشريرة بالطبع، لكن حديثنا هنا عن الطيبين).
طبعًا هذه ليست مقارنة بين حالتي مصر وتركيا؛ فالفروق أكثر من التشابهات، لكنها وصفة لمن يريد العمل السياسي: يجب إيجاد موطئ قدم في الجيش والشرطة. وبالطبع يجب توقع تصفية ذلك الموطئ بالطرد والإحالة على التقاعد، ولذلك لا يكفي لوجوده وجود أعضاء للحزب في الجيش والشرطة، بل قد يكفي إغراء (رشوة.. إن أردنا الدقة في التعبير) قيادات فيهما بمناصب، كما كان يفعل في سالف الزمان السلاطين والمغامرون.
الديمقراطية المسلحة لعبة خطرة قد تنقلب على صاحبها، أو قد تحوله إلى ديكتاتور أرعن، لكنها تبدو كأحد الحلول التي تلهمها الديمقراطية؛ ونقصد الديمقراطية كما تطبقها دول الغرب بنفاق فائق النجاح، وكما يمارسها مدعوها في بلاد المسلمين.
ما ذكرته آنفا لا يعبر عن قناعات شخصية، بل هو استقراء للواقع، أما قناعتي الخاصة فهي أن السلاح خطر في يد كائن من كان، وأن العالم بحاجة إلى نظرية جديدة للحكم، غير الديمقراطية، نظرية تكبح جماح القوة، أو على الأقل تضمن توازن القوى، بشكل يكون من الصعب الإخلال به، ويبدو أن هذا الحلم بعيد المنال في الوقت الحاضر
The post الديمقراطية المسلحة appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست