لا شك أن الفن بصفةٍ عامة هو انعكاس للحالة التي يعيشها أي مجتمع، سواء من الناحية السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية… إلخ، والأغاني بمختلف تصنيفاتها هي جزء من الفن، وهي انعكاس للحالة التي يكون عليها المجتمع، وخاصة الأغاني الشعبية.
وقد انتشرت في الآونة الأخيرة في المجتمع المصري عدد من الأغاني الشعبية التي لاقت قبولًا وإقبالًا من شريحة يمكن وصفها بالكبيرة. هذا لا يمنع من وجود منتقدين لها، وأصبحت هذه الأغاني تفرض نفسها على آذان المجتمع المصري عبر وسائل الاتصال المختلفة والمتعددة، وذات التطور التقني الهائل؛ بداية من الإذاعة والتلفزيون والقنوات الفضائية التي ليس لها ضابط إلا جني الأرباح، ومرورًا بمواقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك، وتويتر، ويوتيوب، وساوند كلاود… وغيرها من شبكات اجتماعية تَغَلْغَلَتْ في ثقافة المجتمع المصري)، وانتهاءً بمكبرات صوت التوك توك (وسيلة المواصلات الشعبية، ومصدر دخل جزء كبير من الشباب في مصر) الذي يعد الراعي الرسمي لهذه النوعية من الأغاني الشعبية، والتي يطلق عليها «أغاني المهرجانات» حسب الاصطلاح الشعبي المتعارف عليه.
وقد انتشرت هذه النوعية من الأغاني انتشارًا كبيرًا إلى درجة أن الأطفال في سن الخامسة – دون مبالغة – يرددونها ويحفظونها عن ظهر قلب، وإلى الحد الذي يتم تداول كلماتها بين مختلف شرائح المجتمع وفئاته.
ومن أكثر الأغاني الشعبية التي انتشرت في الآونة الأخيرة، واخترقت حاجز الصوت، ووجدت طريقها إلى أُذُنِي أغنيتان هما: أغنية «ولاد سليم اللبانين»، وأغنية «آه لو لعبت يا زهر». وقد استوقفتني كلمات أغنية «آه لو لعبت يا زهر»، وتأملتها كثيرًا، فوجدتها نِتاجًا طبيعيًا لما يعيشه المجتمع المصري من حالة اقتصادية – لا يعرفُ المنطق لها وصفًا – اتسمت بارتفاع معدلات البطالة (12,8% حسب تقدير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في ديسمبر 2015م، وطبقًا لبعض التقديرات فإن هذا المعدل يتجاوز الـ17.5%.)، وارتفاع أسعار أغلب السلع الضرورية والخدمات الأساسية، والتفاوت الشديد وغير المبرر في الأجور، لا سيما أجور الممثلين والإعلاميين والمطربين ولاعبي كرة القدم. وهو الأمر الذي ترتب عليه آثار اجتماعية هدامة، من هذه الآثار:
- انتشار العنوسة سواء في الذكور أو الإناث؛ وما يترتب على هذا من انتشار ممارسات غير أخلاقية.
- انتشار ظاهرة العنف وأعمال البلطجة، لا سيما في المناطق الشعبية والريفية.
- انتشار تعاطي المخدرات، لا سيما بين شريحة الشباب.
- انجذاب الشباب نحو الأعمال المحرمة قانونًا وشرعًا، وذات العائد السريع، مثل: تجارة المخدرات، والبحث والتنقيب عن الآثار، وتجارة الأسلحة، وأعمال النصب والاحتيال، والمراهنات والقمار… إلخ.
- الهجرة غير الشرعية، وما يترتب عليها من مخاطر تتعلق بأرواح مئات الشباب سنويًا.
نعود مرة أخرى لأغنية «آه لو لعبت يا زهر»؛ بمراجعة كلماتها وتحليلها، نجد أنها تحمل قضايا أو عوامل اقتصادية مهمة جدًا، وذات تأثير على النشاط الاقتصادي، من هذه القضايا: قضية الفقر؛ حيث نجد كاتب الأغنية يلعن الفقر بقوله: «ملعون أبوك يا فقر يا حاوجني للأندال»، وهو ما يعكس حالة الفقر التي يعاني منها المجتمع المصري، فبحسب الأرقام الرسمية التي أعلنها رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في ديسمبر 2015م: «إنه طبقًا لبيانات آخر بحث أجراه الجهاز وأعلن نتائجه، فإن نسبة الفقر العامة في مصر تقدر بـ26,3%، وأن إقليم الصعيد يُعد الأكثر فقرًا داخل الدولة، حيث تتراوح نسب الفقر به 50% (نقلًا عن اليوم السابع المصرية)، ولا يخفى على أحد ما يشوب هذه الأرقام من عدم دقة وعدم مصداقية. ورغم ذلك فإن النسبة تشير إلى ارتفاع نسبة الفقر.
أيضًا من القضايا أو العوامل الاقتصادية التي تتضمنها كلمات الأغنية، قضية اقتصادية على درجة مهمة جدًا؛ ألا وهي غياب وفقدان الحافز الاقتصادي؛ وقد عبر كاتب الأغنية عن ذلك بقوله: «بس خلاص أنا نفسي اتسدت، بعد ما إيدي للواطي اتمدت، كنت عامل خدي مداس بحب الخير لكل الناس، بقيت ع التراب بنداس ناس تخوني وناس تبيعني، الدنيا كانت ولا فارقة مشيلتش أنا قرش في زنقة، كل أما أتمنى حاجة تضيع، أضحك دقيقة أحزن أسابيع، زهقت من كتر الترقيع ومش لاقيلي بر أرسى، عشت الحياة بكل سذاجة مطلعتش م الدنيا بحاجة، وهو مين واخد حاجة ما كله هيسيبها ويمشي»، فيُلاحظ أن كلمات الأغنية تعكس شعورًا باليأس، وغياب الحافز؛ بسبب انخفاض الدخل، وعدم توافر رصيد مالي يستعين به الشباب لتلبية احتياجاته المختلفة، وغياب الحافز الاقتصادي بين الشباب مَدْعَاة للبطالة، وانخفاض الإنتاج، والانصراف إلى تضييع الوقت في الأعمال غير المفيدة. ولا يخفى على أحد أهمية الشباب باعتبارهم عنصرًا أساسيًا وفاعلًا في التنمية وخاصة التنمية الاقتصادية، وبدون الشباب وطاقاتهم وإمكاناتهم وحماسهم لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق ما يصبو إليه من نمو وتقدم على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وإجمالًا فإن دلالة ومضمون اسم الأغنية «آه لو لعبت يا زهر» يشير إلى الحالة التي أصبح عليها أغلب أفراد المجتمع في مصر (خاصة الشباب)، وهي حالة (البحث عن الغنى السريع دون تحمل أي مخاطر أو مشقة) سواء بضربة حظ، أو من خلال أعمال ذات عوائد عالية وسريعة.
وهذه الحالة التي أصبح عليها كثير من أفراد المجتمع في مصر أدت إلى انتشار الكثير من الشركات التي تستغل هذه الحالة، وتقوم بتسويق فرص عمل في مجالات وهمية تستنزف طاقات الشباب وأموالهم، ومن أمثلة هذه الشركات، شركات المتاجرة في العملات الأجنبية، والمعروفة باسم (الفوركس)؛ وهي شركات غير قانونية تتخذ الكثير من التدابير والحيل لتمارس نشاطها داخل مصر، وتعمل في مجال بيع وشراء العملات الأجنبية عبر الإنترنت، وأغلب هذه الشركات شركات نصب واحتيال وتروج لأعمالها بوسائل مختلفة مستهدفةً الشباب مستخدمي الإنترنت، وتوهمهم بالربح السريع والدائم من خلال التعاقد معها.
كذلك شركات التسويق الشبكي وأشهرها في مصر (كيونت)؛ والتي تجتذب نسبة كبيرة من شباب الخريجين وطلبة الجامعات، وتجبرهم على شراء منتجات (عديمة الفائدة) بأسعار مُبالغ فيها، على أن يقوموا بترويج هذا المنتج وبيعه لغيرهم، فيتحقق لهم دخل كلما زاد عدد الأفراد الذين يتم إقناعهم بالمنتج؛ فمثل هذه الشركات تستغل حالة اليأس التي عليها أغلب الشباب – بسبب البطالة ورغبتهم في تحقيق ثروات بسرعة كبيرة – وتروج لأنشطتها عبر الوسائل المختلفة تحت شعار «الربح السريع». ورغم تعرض الكثير من الشباب لعمليات نصب واحتيال من هذه الشركات إلا أن الحالة الاقتصادية والمعيشية التي أصبح عليها المجتمع في الآونة الأخيرة جعلت البيئة مناسبة لمثل هذه الشركات لتحقيق أرباح خيالية من خلال بيع الوهم للشباب.
إن تركز أحلام وطموح شباب مجتمع ما في «ضربة حظ أو لعبة زهر» مؤشر على ما آل إليه المجتمع من ضعف ويأس وفقد لأسباب التقدم، وهو مؤشر له تبعاته الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فعلى المستوى الاقتصادي تؤدي هذه الحالة إلى انصراف أهم فئات المجتمع (الشباب) عن العملية الإنتاجية، وبالتالي انخفاض الإنتاجية كمًا وكيفًا، وهذا بدوره يؤدي إلى آثار اقتصادية – دون الدخول في تفاصيلها وتحليلها – يتحملها عديمو ومحدودو الدخل (والذين يمثلون الجزء الأكبر من المجتمع).
إن الشباب هم عماد أية أمة وسر نهضتها، وهم بناة حضارتها وخط الدفاع الأول والأخير عنها، وهم أيضًا الثروة الحقيقية لأي مجتمع، وسبيله الرئيس للتنمية والتقدم والرقي، ولا يمكن تصور تنمية حقيقية بدون شباب ذي همة وقدرة على تحمل مسئوليته تجاه نفسه وتجاه المجتمع، ولا أظن أن شبابًا يائسًا ينتظر ضربة حظ أو يلعب معه الزهر، بدلًا من أن يستغل طاقاته وإمكاناته – الهائلة – في العمل والإنتاج، قادرٌ على أن يقوم بدور في عملية التنمية.
وبعيدًا عن الأغنية، وبعيدًا عن لغة الاقتصاد التي لا يجيدها إلا قلة تسكن أبراجًا عالية، فإن أي نمو اقتصادي لا يصاحبه تحسن في مستوى معيشة المواطن فهو وهم، ولن يقود إلى تنمية حقيقية، فلا تنمية بدون مواطن ذي مستوى معيشة معتدل وتعليم جيد، ورعاية صحية متساوية وعادلة. ولا تنمية بدون إنتاج، ولا إنتاج بدون حافز ودافع يحرك المواطن.
The post آه لو لعبت يا زهر appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست