ربما يدرك الجميع مدى انتشار البطالة في المنطقة العربية، ومدى الضرر الذي تسببه على المستويات الاجتماعية والاقتصادية، ولكن هذا الإدراك يكون قاصرًا في الغالب على هذا النوع الواضح من البطالة أو ما يطلق عليها البطالة الإجبارية التي تنشأ عن عجز العامل عن إيجاد عمل؛ فهو مجبر على أن يكون في حالة بطالة، وبالرغم من أن هذا النوع هو أساس المشكلة الاجتماعية التي قد تنجم عن البطالة، لكن من الناحية الاقتصادية هناك نوع آخر أكثر خطورة، وهو النوع الذي يسمى بالبطالة المقنعة، فما هو هذا النوع؟
تعبر البطالة المقنعة عن مجموعة العمال أو الموظفين الذين يحصلون على أجور أو رواتب، وذلك دون مقابل من العمل أو الجهد الذي تتطلبه الوظيفة، بمعنى أن هذا النوع من البطالة لا يضيف شيئًا للناتج الكلي للدولة، أي لا يقدم قيمة حقيقية للاقتصاد، لكنه في نفس الوقت كذلك لا يدخل ضمن إحصاءات البطالة في الدول، لذلك لا يكون الاهتمام بعلاج هذا المشكلة بدرجة الاهتمام ذاتها المبذول لعلاج البطالة الإجبارية.
البطالة المقنعة.. الأسباب والأشكال
تنتشر البطالة المقنعة في الدول النامية بقوة، وخاصة المنطقة العربية، وتأتي لسببين رئيسين، هما: إما توافر أعداد كبيرة من العمال لشغل وظائف قليلة جدًا، أي أن هناك فائضًا من العمالة غالبًا بسبب زيادة عدد السكان وعدم توفر وظائف حقيقية كافية، وأما السبب الثاني فهو الفساد والمحسوبية، وهي أيضًا أشياء منتشرة في المنطقة بشكل ملحوظ، وأبرز صورها تكدس العاملين في الأجهزة الحكومية بما يفوق احتياجات تلك الأجهزة.
وبحسب مازن إرشيد، الكاتب والمحلل الاقتصادي، فإن البطالة المقنعة تأخذ أشكالًا أخرى، منها من يحصلون على إعانات وهم قادرون على القيام ببعض الوظائف، وكذلك الموظفون الذين أُجبروا على التقاعد المبكر، وكذلك العمال الذين يتقاضون رواتبهم مقابل وظائف غير منتجة، وهذا النوع منتشر بدرجة أكبر في قطاع الخدمات، بالإضافة إلى قطاعات أخرى، لذلك فإن معدلات البطالة الرسمية، تنقصها الدقة بشكل كبير؛ لأنها لا تضم هذه الأشكال المذكورة، وهي الأكثر خطورة على الاقتصاد.
يمكن أيضًا إدراج هؤلاء الأشخاص الذين لا تمنحهم وظائفهم فرصة استغلال كامل قدراتهم، أو من يقبلون بالعمل في وظائف دون ما يمتلكونه من قدرات ومهارات، ومثال ذلك من يحصلون على مؤهلات عليا ويعملون بأعمال لا تحتاج إلى مؤهلات من الأساس، مثل شخص حاصل على ماجستير في المحاسبة مثلًا، لكنه مضطر للقبول بالعمل محصل (كاشير) لأنه لم يتمكن من العثور على عمل في مجاله، فعمل بوظيفة أقل من قدراته.
ولتوضيح الفكرة بشكل بسيط، لنأخذ مثالًا بأحد المصانع الذي يحتاج فعليًا إلى خمسة عمال لإنتاج سلعة نهائية عالية الجودة، فعندما ينخفض عدد العمال عن هذا الرقم سنحصل على منتج أقل جودة، لكن إذا وصل عدد العمال إلى سبعة أو ثمانية فإن هذه الزيادة لا تضيف شيئًا للإنتاج أو الجودة، وهنا نقول إن العاملين أو الثلاثة الزائدين عن حاجة المصنع الفعلية يمثلون البطالة المقنعة، وهنا تكون الخسارة على جانبين.
الجانب الأول هو أن مالك المصنع يخسر طاقة إنتاجية مهدرة كان من الممكن استخدامها في العمل على منتج آخر، وعلى الجانب الآخر يخسر العمال لأن ميزانية الأجور التي كانت توزع على خمسة عمال سيتم توزيعها بدون زيادة على العدد الأكبر، أي ستنخفض أجور العمال في هذه الحالة.
وكما ذكرنا فإن هذا النوع من البطالة ينتشر بشكل ملحوظ في الدول العربية، لدرجة أنه قد يكون أحد الأسباب المدمرة لاقتصادات المنطقة، في ظل أن بعض الإحصاءات تشير إلى أن بعض الدول العربية تصل نسبة البطالة المقنعة بأجهزتها الإدارية إلى نحو 20%، وخلال السطور القادمة سنتحدث عن ثلاثة نماذج عربية تنتشر بها البطالة المقنعة.
السعودية: موظفون.. ولكن يعملون ساعة واحدة يوميًا
بالرغم من ارتفاع نسبة البطالة الظاهرة بين السعوديين والتي وصلت إلى مستويات قياسية خلال الربع الأول من 2018، إذ بلغت 12.9%، والتي تعد النسبة الأكبر منذ عام 1999، وضمن المعدلات الأعلى عربيًا، إلا أن ظاهرة البطالة المقنعة تبرز كذلك في السعودية بشكل واضح، والمعدل المذكور لا يضم هذا النوع من البطالة. إذ إن هذه الظاهرة تنتشر بوضوح في المؤسسات الحكومية، وتساهم بقوة في تكدس الأعمال الوظيفية وعدم إنجازها وتأخيرها، إذ إن أعدادًا هائلة من الموظفين يتزاحمون على إثبات حضورهم يوميًا، لكن دون مساهمة حقيقية في الاقتصاد.
وهذا النوع قديم في السعودية والخليج عمومًا؛ إذ اعتاد أغلب السعوديين والخليجيين أن يجدوا وظائف في الوزارات، أو الهيئات المحلية، ولذلك تستحوذ مخصصات الرواتب والأجور على الجانب الأكبر من النفقات التشغيلية، والإنفاق العام. فوفق موازنة السعودية في 2019، تقدر الرواتب والأجور بنحو 456 مليار ريال، وهو ما يعادل نسبة 53% من إجمالي النفقات التشغيلية، ونسبة 41.2% من إجمالي الإنفاق العام، ورغم ضخامة هذا الرقم إلا أنه أقل عما كان مقدرًا في 2018 بنحو 18 مليار ريال.
أيد عاطلة فوق بحر ذهب.. لماذا لا تنخفض البطالة في السعودية رغم قرارت التوطين؟
هذه الأرقام الضخمة ينفق معظمها على الموظفين السعوديين بالخدمة المدنية (القطاع الحكومي) والذي وصل عددهم بنهاية الربع الأول من 2018 إلى نحو 1178328 موظفًا، إذ يوظف القطاع العام ثلثي العاملين السعوديين، ويتميز بالأجور المرتفعة، في ظل إنتاجية لا تقارن مع ما تنفقه الدولة على هذه الوظائف. لذلك تحاول البلاد معالجة هذه الأزمة من خلال وقف التوظيف بهذا الشكل، إذ قالت وزارة الخدمة المدنية في أبريل (نيسان) 2018، إن قدرة القطاع الحكومي على استيعاب المواطنين قلت بنسبة كبيرة جدًا.
ويُعد الموظف الحكومي السعودي الآن محظوظ كثيرًا؛ لأن الوظيفة التي يشغلها لا تحتاج إلى مجهود يذكر، في حين أنه يحصل على راتب عال جدًا لا يتناسب على الإطلاق مع إنتاجيته. إذ تشير دراسة مصلحة الإحصاءات العامة أن إنجاز الموظف الحكومي هو ساعة في اليوم فقط لا غير، في حين تصل وفقًا للمعايير الدولية إلى سبع ساعات يوميًا، أي أن الموظف الحكومي ينجز شهريًا بين 20 و21 ساعة، وبالتالي تدفع الدولة تكلفة أجور لا تحصل في مقابلها عمل، وذلك بحساب المال؛ لأن باقي ساعات العمل مهدرة وفق الدراسة وإنتاجية الموظف الحكومي.
وتشير هذا الأرقام والمعطيات إلى خسائر فادحة للاقتصاد السعودي جراء البطالة المقنعة، التي تكلف الدولة المليارات سنويًا، دون تقديم أي قيمة مضافة للناتج المحلي الإجمالي. ولا شك أن هذا الأمر مساهم رئيس في فشل السعودية في استغلال مواردها الضخمة من النفط، خاصة خلال الفترات ما قبل هبوط أسعار النفط في منتصف 2014، واستمرار هذا الوضع سيكون له أثر مدمر بلا شك على الاقتصاد، بحسب المحللين.
مصر: عاطلون عن العمل في المصالح الحكومية برواتب شهرية
لا يختلف الوضع كثيرًا في مصر عن السعودية مع اختلاف المعطيات، ولكن النتيجة واحدة، فمع وجود جهاز إداري ضخم لا يتناسب إنتاجه مع ما يحصل عليه من رواتب تخسر البلاد خسائر كبيرة، دون إضافة تذكر للاقتصاد الحقيقي في البلاد.
فبحسب، هالة السعيد، وزير التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري، فإن عدد موظفي الحكومة حاليًا حوالي 5.2 مليون شخص، والنسبة الكبرى من موظفي الحكومة يعملون في المحليات، موضحة أن الحكومة «تعمل على إعادة تأهيل الموارد البشرية للمساهمة في التغيير داخل الجهاز الإداري للدولة».
وتبلغ مخصصات الأجور في موازنة مصر للعام المالي الجاري 2018 / 2019 نحو 266 مليار جنيه، وهذه الأجور يحصل عليها العاملين بالوزارات الحكومية، وذلك بخلاف العاملين بالهيئات والوحدات الاقتصادية، والتي لا تدخل أجورهم ضمن هذا الرقم، فيما تحاول الحكومة خفض فاتورة الأجور بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، من خلال تنفيذ قانون الخدمة المدنية، وحظر التعاقد على بند أجور موسميين، وكذا الحظر الوارد بالتأشيرات العامة.
يشار إلى أنه قد خلصت دراسةٌ أجراها اتحاد تنمية الموارد البشرية في مصر عام 2013 إلى أن متوسط إنتاج العامل المصري 30 دقيقة في اليوم، وأوضحت الدراسة أن هذا المعدل من أقل المعدلات في العالم، ويرجع إلى التخلف الاقتصادي، وهو ما يجعل الموظف على السواء أشبه بالعاطل عن العمل، ولكن يحصل على راتب.
وتنشأ هذه الظاهرة في مصر بسبب أن قوانين البلاد توزع الوظائف دون الالتزام بقواعد وقوانين صارمة، فضلًا عن تعيين موظفين لا تتناسب مؤهلاتهم مع الوظيفة التي يعملون بها ولا تحقق مصلحة سوق العمل، ولا يُنس العامل الذي وصفته الدراسة بالأخطر؛ وهو «الواسطة والمحسوبية» في التعيين، بمعنى المساهمة الكبيرة للفساد في هذا القطاع.
العراق: معدل إنتاج الموظف في اليوم الواحد.. 17 دقيقة
منذ عام 2003 تتسع ظاهرة البطالة في العراق بشكل مخيف، وذلك في ظل مناخ مناسب لطغيان الفساد المالي والإداري، واختلال منظومة قوانين الاستثمار، وسوق العمل. كل هذه الاختلالات تسببت في أن تكون ظاهرة البطالة المقنعة في العراق ربما الأكبر من بين دول المنطقة، إذ تشير بعض الإحصاءات إلى أن البطالة في العراق تصل إلى نحو 59%، منها نحو 43% بطالة مقنعة، وهو النوع السائد في أغلب مؤسسات القطاع العام؛ حيث يتكدس في إطارها عدد كبير من العاملين بشكل يفوق الحالة الفعلية للعمل.
وتشير التقديرات إلى أن العراق يضم أكثر من 4 مليون موظف حكومي، وهو ما يعادل نحو 20% من القوة العاملة، التي تتراوح بين عمر 14 إلى 60 عامًا، ويشكلون نحو 58% من عدد السكان. بينما لا تتجاوز نسبة الإنتاجية للعامل الواحد في المؤسسات الحكومة مدة 17 دقيقة خلال ثماني ساعات، مدة العمل الرسمية في اليوم الواحد، وهي المدة الأقل بين الموظفين العرب.
ونتجت هذه الظاهرة بسبب السياسات الخاطئة التي تم إدارة البلاد بها منذ احتلاله عام 2003، إذ انتشر منذ ذلك الحين قيام ساسة الأحزاب الحاكمة بتعيين أقاربهم وذويهم في المؤسسات والهيئات الحكومية، وهو ما يمثل هدرًا مباشرًا لموارد البلاد في ظل فشل الحكومات المتعاقبة في تجاوز هذه الأزمة الكبيرة، إذ إنه في عام 2017 حل العراق في المركز 169 بين 180 دولة في مؤشر الفساد منظمة الشفافية الدولية.
جدير بالذكر أن أهم ملامح موازنة العراق لعام 2019 هو تضخم حجم الرواتب التي تصل إلى 54% من إجمالي الموازنة، إذ بلغت مخصصات رواتب الموظفين والمتقاعدين والضمان الاجتماعي 52 مليار دولار، بزيادة تقدر بـ15% عن العام الماضي، لكن هذا الأرقام في معظمها تذهب إلى الإنفاق على البطالة المقنعة، في إشارة إلى أن نسب البطالة الحقيقية في البلاد لن تتوقف عن الصعود.
The post موظف بدرجة عاطل.. كيف تدمر البطالة المقنعة اقتصادات العرب؟ appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست