لطالما استهوتني لعبة الشطرنج منذ الصغر، وأسرني انتشار أحجارها على رقعة ممتدة ذات اليمين وذات الشمال، وجذب انتباهي تباين ألوانها بين أبيض وأسود؛ وكأنها تحكي حربًا بين الخير والشر، الضوء والظلام، العلم والجهل.
أحيانًا أشعر أن المشهد السياسي في فلسطين تحول إلى ما يشبه رقعة ضخمة للشطرنج، صحيح أنه قد يتبارى على احتلالها والسيطرة على مجريات المعركة أكثر من لاعب في نفس الوقت خلافًا للمعهود، لكنها، كما الحقيقة، تظل غير قابلة للقسمة إلا على لاعب واحد في نهاية المطاف، والفائز هو حتمًا من يقتل ملك الآخر أولًا بلا هوادة!
هناك حيث تصطف الأحجار حول الملك ذودًا عن غدر، وحماية لرمز ديمومة الفريق، وإعلاء لكلمة وجوده على رقعة مبتغاها نصر لا محالة.
في المقدمة تزدحم الصفوف بالجنود. حيث حركتها محدودة ومحكومة بتوجيهات، فالجندي غير مسموح له الرجوع إلى الخلف ولو خطوة؛ فإما الموت أو الحياة، وحياة بلا شجاعة وإقدام لا جدوى منها.
ثم تأتي الصفوف المؤخرة بعمائدها وحكامها. فعلى يسار الملك، يأتي الوزير، وهو من أخطر الأحجار وأهمها تمركزًا على الرقعة. يده طائلة، وحركته محورية في كل الاتجاهات. في لمح بصر يغدو في مقدمة الصفوف، وفي ردة طرف يعود إلى جانب الملك. إذا سقط الوزير أو فسد، عانت الأحجار الأخرى الأمرين في تعويض فقدانه. أما من يليه فهو حجر الفيل الذي يجاور الملك من جهة، والوزير من جهة أخرى. من وحي اسمه باللغة الإنكليزية، الفيل يأخذ صبغة دينية، ومتاح له التحرك قطريًا على طول الرقعة ذهابًا وإيابًا. قد يلتف من وراء الصفوف، ويتجاوز الأحجار تحقيقًا لهدف ما، فشعاره الغاية تبرر الوسيلة، وصلاح الوسيلة يعتمد على صلاح الفيل. فإذا فسدت الوسيلة، كان ذلك ثغرة في جسد الفريق كله وملكه ووزيره. أما عن حجر الحصان، وتفرده بميزة عن باقي الأحجار، فهو الحجر الوحيد بكافة إعداداته المخول بالقفز عن الصفوف؛ لا يأبه إن كان هناك حاجز ما بينه وبين مراده، ما دام الهدف الأسمى هو حماية الملك. أخيرًا يأتي حجر القلعة، واتخاذها زوايا الرقعة كأبراج مراقبة لحركة الأحجار الصديقة والغادرة. يلومها البعض بثقل حركتها ومدى بيروقراطيتها المتفشية؛ فالحركة إما عموديًا أو أفقيًا مما يجعلها أقرب إلى النمطية وأبعد عن الإبداع.
ففي بادئ الرأي فإن الملك والوزير والفيل والحصان والقلعة وآخرين كلهم مشارك وفق أهدافهم وقناعاتهم بنصيب ما من رقعة الشطرنج، وإن كنت أثق أنك لو أمعنت النظر فستجد أنه ليس بالضرورة أن يكون كل أطراف اللعبة على نفس القدر من الحنكة والمهارة، بل ربما قد تفاجأ بأنهم ليسوا بلاعبين أصلًا، إذ يمكن أن يكونوا عن غير قصد بمثابة قطع يحركها غيرهم على الرقعة بمنتهى اليسر، لا سيما أولئك الذين يصرون على قراءة المشهد باعتباره حلبة للمصارعة، فهم أقرب الناس للوقوع في فخ الاستخدام من غيرهم.
تبدأ المعركة بين الفريقين، وحالها تقدم في الصفوف الأمامية، وتنظيم صفوف في المؤخرة عن كثب بحثًا عن هفوة ما في فريق الخصم، والعين لا تغادر الملك. يسقط الجنود عادة في بداية المعركة، وتبدأ أحجار ارتكاز المؤخرة بين كر وفر علَّ الموقف ينجلي عن نصر قريب. فإذا اشتد الوطيس وعلا صوت التهديد، يبادر البعض أحيانًا باللجوء إلى حركة تبييت الملك أي التبديل في المواقع بين حجري القلعة والملك؛ صونًا لعرش ودفاعًا عن رمز استمرار.
لكن من المعروف أن حركة التبييت كلما تأخرت، قل نفعها وعظم ضررها وكشف ثغرات أكثر من سدها. يكون مرماها هو تلقي الهجمات عن حجر الملك؛ إلا أن الحركة في أحيان كثر لا تؤتي أكلها على الرغم من اعتقاد الناظر أنها تحرك استراتيجي تكتيكي!
في حلكة الليل واشتداد الأسى، يبرز الأبطال البواسل. في خضم احتداد الأحداث، وضيق حلقات الموقف، يظهر معادن الرجال. فالجندي يمارس تقدمه إلى الأمام دون كلل أو تعب، حتى إذا ما لمس آخر خطوط العدو تحول إلى وزير بكل امتيازاته وصفاته. فقواعد اللعبة لا تحابي أحدًا، ومن جدَّ وجد، ومن سار على الدرب وصل. في ضوء تقهقر أحجار وسقوط أحجار أخر، يأتي الجندي من المؤخرة ليغير مجريات لعبة، ويصبح ورقة رابحة على حين غرة، ويقلب الطاولة رأسًا على عقب في وجه الخصم الغاشم!
رقعة الشطرنج وأحجارها تماثل نظام الحكم في أي دولة وأي رقعة، فحجر الملك هو رمز نظام الحكم، وحجر الوزير هو في مقام المستشار المقرب من نظام الحكم، وحجر الفيل هو الجهاز الديني أو القضائي للدولة، وحجر الحصان هو الجيش والقوات الأمنية، وحجر القلعة هو الأجهزة الحكومية المختلفة. أما الجندي فهو كل فرد من الشعب! فإذا حسن التنظيم والتخطيط وتم التنفيذ على أكمل وجه والمراقبة أخذت موقعها السليم كان النصر حليف كل الفريق. وإذا اختلت المنظومة لأي سبب من الأسباب، سقط الفريق بأكمله.
لكن لم يكن عبقريًا من صمم الشطرنج بالقدر الكبير الذي دسوه إلى عقولنا في الصغر، فقد كبرنا وأدركنا أن الجندي هو اللاعب الأساسي في معادلة قلب الطاولة رأسًا على عقب، كبرنا وأدركنا أن من يترك جنوده لقمة سائغة للخصم تلاحقه لعنة الهزيمة حتى آخر حجر في الطاولة أو آخر طلقة في السلاح، كبرت وأدركت أن معادلة الموت من أجل الملك معادلة خاطئة وقبيحة إلى أبعد حد من الحدود.
المهم أنه قد استهوتني مسألة رقعة الشطرنج هذه كثيرًا، فظللت أنقب وراء أسرار اللعبة لأفهم كيف يحسم اللاعب الماهر النصر لصالحه؟
فإذا بجهابذة اللعبة قد كشفوا الكثير منها وبثوا خبراتهم في هذا المضمار لكل ناهم متعطش، فلك أن ترى مثلًا اتفاقهم على أنه رغم كون رقعة الشطرنج تعتمد بالأساس على الذكاء في أكثر درجاته حدة، فإن كثيرًا من اللقاءات قد يتفوق فيها الأصبر والأكثر اتزانًا وقدرة على تحليل المواقف وإعادة تقييمها، على ذكي ربما كان الطيش رفيقه الدائم.
وقالوا الفرق بين اللاعب المبتدئ والآخر المحترف حساسية الأخير للمواقف الحرجة، فهو على علم بحركات خصمه التي تمثل «تهديدًا مباشرًا» من تلك التي لا تحتاج كبير عناء لمواجهتها. حساسية تمتد لتشمل «عنصر التوقيت» أيضًا، إذ إن اللاعب الماهر يعلم متى يقدم على حركة بعينها ومتى يؤخرها، متى يستمر في خطته المعدة مسبقًا ومتى يعدل عنها إلى «خطة بديلة». قلت في نفسي: أو هناك خطة بديلة؟ فلكأني بالخبراء سمعوها، فرماني جهبذ منهم ببصره شذرًا، وقال: هذه بديهيات يا فتى، ينبغي أن تكون مستعدًا مع كل حركة على الرقعة بخطة بديلة وإلا فإن احتمال أن يتوقع خصمك حركة لك فيعمد إلى إفسادها ليس منك ببعيد.
وماذا عن «ثبات الأعصاب» هل له دور في حسم اللقاء، أفتونا يرعَكم الله؟ هزوا رؤوسهم بالموافقة، قالوا: أما تدري أن ثبات أعصابك وتركيزك غير المنقطع كفيل بأن يقلب لك هزيمة محققة إلى نصر مبين؟ نعم قد يباغتك خصمك بحركة لم تدر بخلدك أو يثخن بك الجراح، فيخرج لك قطعة تلو أخرى من جيشك، فإن خانتك أعصابك طرفة عين فخسارتك إذن مرشحة للتضاعف سريعًا، ووحدها رباطة الجأش قد تعيد لك أحكام القبض على زمام الأمور.
ظللت أحصى ما قالوه مخافة أن أذهب عنه: الصبر، الاتزان، الحساسية للتوقيت، الخطة البديلة، وثبات الأعصاب، هل من مزيد يا رفاق؟ همهم أحدهم: آخر ما نوصيك به ألا تغفل أبدًا عن «رؤية متكاملة» لرقعة الشطرنج، فلاعب ينغمس في مراقبة قطعة بعينها أو يشرد ذهنه مع كل خسارة عارضة تلم به سيخسر اللقاء حتمًا لا ريب.
ولكن قد أثبتت بقعة صغيرة في هذا العالم الرديء، نقيض أصول المعادلة بأن من الممكن أن يموت كل الجنود لأجل ذلك الملك، ولأجل وزيره، ولأجل فيله، ولأجل حصانه، ولأجل قلعته، دون النظر لروح الفريق.
ومع التحفظ الكبير لكل ما سبق من قواعد الرقعة، فرقعة غزة لن تقبل بالقواعد ذاتها كما رفضها ملكها، فغزة أيضًا منزهة عن كل المعادلات. غزة هي المعادلة نفسها، غزة هي التي بإذن ربها تسوء الوجوه.
أخيرًا وليس آخرًا، مرحى لأفراد ما استكانوا ولا هدؤوا وداوموا على التقدم، الصبر، الاتزان، الحساسية للتوقيت، الخطة البديلة، وثبات الأعصاب، والإلمام بالرؤية المتكاملة ليقطعوا خط النهاية ويصبحوا أمل حياة ومجدًا على رقعة شطرنج طاهرة.
The post لعبة التوطين على طاولة الشطرنج.. من يقتل الملك أولًا؟ appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست