الجمعة، 30 يونيو 2017

ثقفني اون لاين : الإنتاج عاريًا

   للفيلسوف البريطاني «برتراند راسل» مقولة جميلة جدًّا تنص على أن: «العقل المفتوح على الدوام هو عقل فارغ على الدوام!»، أي أن استعداد المرء الدائم لقبول أي فكرة جديدة وتسامحه معه لا يدلان إلاّ على أنه امرؤ لا يعتنق أي فكرة ولا يتبنى أي موقف على الإطلاق. بهذا الخصوص إذا سألت أي اقتصادي عن ماهية الإنتاج لأجابك بأنها (خلق منفعة أو زيادتها). وإذا طلبت منه أن يعطيك مثالًا لما يمكن أن يعتبره «عملية إنتاجية» فالأرجح أنه سيقول: وجود مصنع لصناعة السيارات أو مصنع لصناعة المواد الغذائية أو غيرها. ولكن هل يمكن أن نقول إن الفنان أو الموسيقار الذي يعزف على الكمان في بيته ينتج، وتحسب عمله من قبيل الإنتاج؟ بحجة أنه يقوم بخلق منفعة. وإذا جئنا إلى صناعة السجائر التي يتفق الأغلبية الساحقة منا بأنها ضارة، لماذا يعتبرها الاقتصاديون عملية إنتاجية على الرغم من أنها لا تخلق منفعة؛ بل تخلق ضررًا، فإلى أي درجة كما قال «د. جلال أمين» يجب أن تفوق المنفعة الضرر حتى يعتبر النشاط إنتاجًا؟ وما الحكم إذا كان الضرر أكبر من النفع؟

    ولعل بعض الاقتصاديين يميلون إلى معيار آخر للتفرقة والتمييز بين الإنتاج والاستهلاك غير مسألة (خلق المنفعة أو زيادتها)، وهو معيار «البيع»، فكل سلعة أو خدمة تتمتع بقابلية البيع من أجل تحقيق ربح أو فائض يعتبره الاقتصاديون من قبيل الإنتاج، وأية سلعة أو خدمة لا تتمتع بمعيار «البيع» لا تعتبر من قبيل الإنتاج، بل يعتبرها هؤلاء الاقتصاديون استهلاكًا. فمثلًا: الأعمال المنزلية التي تقوم بها الزوجة في المنزل، والتي لا يمكن لأحد أن يُقلل من منفعتها، فهي في العادة لا تصنف على أنها من قبيل الإنتاج، ولكن نفس الأعمال إذا قامت بها إحدى الخادمات صنفت في حقل الإنتاج. وقد تهكم أحد الاقتصاديين على هذا بقوله: إنه لو قامت كل زوجة بمثل الأعمال التي كانت تقوم بها لخدمة أسرتها، ولكن في منزل الجيران حيث تقاضت أجرًا نقديًّا على ذلك، وقامت زوجة الجيران بدلًا منها ولكن بأجر نقدي بنفس الأعمال التي كانت تقوم هي بها، لدخل أجر السيدتين في حساب الناتج القومي على أساس أنه مقابل نشاط إنتاجي، بينما لا يدخل عملهما في الحساب إذا كان يقدم بلا مقابل. هذا هو المعيار الذي استخدمه «آدم سميث» للتمييز بين العمل المنتج والعمل غير المنتج حين اعتبر العمل المنتج منتجًا إذا أسفر عن شيء صالح للبيع.

   فهل يمكن قبول مثل هذا المعيار (أي معيار البيع)، كون تاريخ البشرية كما عبّر عنه «د. جلال أمين» لم يعرف هذا النوع من الإنتاج، إذ لم يكوّن الإنتاج من أجل البيع فيه إلّا جزءًا صغيرًا جدًّا من النشاط الاقتصادي للإنسان. فالرقيق مثلًا في اليونان القديمة لم يكونوا يقومون بزراعة الأراضي من أجل البيع، إلا فيما يتعلق بنسبة صغيرة من الإنتاج، ولم يقوموا بتقديم الخدمات المنزلية لأسيادهم مقابل أجر، فهم كانوا ينتجون لسد حاجاتهم المباشرة هم وعائلاتهم. ويستخلص «د. جلال أمين» من هذا القول وجود تحيز لا يقوم على أساس من المنطق أو العلم، بل يرجع إلى أفكار ومشاعر مسبقة ترجع بدورها إلى ظروف نشأة علم الاقتصاد الذي لا يزيد عمره على ثلاثة أو أربعة قرون.

   حتى إن هذا التحيز لم يبق عند مفهوم الإنتاج فقط؛ بل تعداه إلى عناصر الإنتاج أيضًا، فقد بيّن «وليام بتي» في سنة 1676م أن أصل كل إنتاج هو عنصران: الأرض والعمل، الأرض هي (أم الثروة) والعمل هو (الأب). بينما نرى أن المذهب الطبيعيين لا يرون في أصل الإنتاج إلا عنصرًا واحدًا وهو الأرض، كون أن الصناعة لا تزيد مساهمتها على إعادة تشكيل أشياء سبق إنتاجها من الأرض، وأن التجارة لا تزيد مساهمتها على نقل هذه الأشياء سواء قبل أو بعد تصنيعها من مكان لآخر.

   اعتبر الاقتصاديون التقليديون من «آدم سميث» فصاعدًا، أن الإنتاج يمكن رده لا إلى عنصر واحد كما فعل الطبيعيون، ولا إلى عنصرين كما قال «بتي»؛ بل يجب رده إلى ثلاثة عناصر: الأرض والعمل ورأس المال، ويقصدون برأس المال كل سلعة من صنع الإنسان عندما تستخدم في إنتاج سلع أخرى كالآلات، ومباني المصانع، ومختلف المعدات، والمواد الأولية. وعندما أثار «كارل ماركس» بعد ظهور كتاب (ثروة الأمم) لآدم سميث بتسعين عامًا السؤال عن أصل الإنتاج، لم يجد إلا عنصرًا وحيدًا يجب أن يرد إليه كل المنتجات وهو «العمل»، أما «رأس المال» فما الذي خلقه غير العمل؟ وأما نتاج الأرض فما قيمة الثمرة المتدلية من غصن الشجرة إن لم تمتد يد العامل لالتقاطها؟

ثم ازداد الطين بلة بتعبير «د. جلال أمين»، عندما أضاف بعض الاقتصاديين ممن يسمون بالتقليديين المحدثين عنصرًا رابعًا وهو «المنظم» الذي يقصد به مالك المشروع صناعيًّا كان أم زراعيًّا أم تجاريًّا الذي ينتج سلعة أو خدمة، فهذا المنظم يستحق الربح مثلما يستحق العامل الأجر، والرأسمالي الفائدة، وصاحب الأرض الريع. ويرى «د. جلال أمين» أن اعتبار المنظم عنصرًا رابعًا من عناصر الإنتاج لا بد أنه يستند بدوره على تحيز يرفع من مكانة صاحب المشروع بإعلاء شأن دوره في عملية الإنتاج، ويسبغ أيضًا نوعًا من الشرعية على ما يحصل عليه من دخل. لماذا لا نسمي كل ما يسهم في عملية إنتاجية سواء كان عملًا إنسانيًّا أم جزءًا من نتاج الأرض أو الطبيعة، أم حتى مجرد قرار بإقامة المشروع، لماذا لا نسمي كلًّا من هذه الأشياء مجرد (مستخدم)، ونسمي الشيء الذي ينتج منها مجرد منتج، فنتجنب أي تحيز؟ ونكون قد حافظنا على الاحترام الواجب للعلم.

The post الإنتاج عاريًا appeared first on ساسة بوست.



لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست