ليس كل من وقع في براثن المرض النفسي وضغوطه وعايش حياة قاسية ونَفِر الناس منه قبع ضحية آلامه، واختل توازنه العقلي، لكن لجهل من حولهم بهم سادت تلك الفكرة عنهم، بل إن الضغوط النفسية في كثير من الحالات ينتج عنها عقل موزون، يُشكّل الحقيقة الخالصة فيكونوا مجددين مبدعين، حتى يصل بنا الحديث عن ما أورثوه من أقوال إلى حد التصديق، واتّخاذ من كل كلمةٍ يتفوهون بها حكمة ذات مدلول ضمني، وخير مثال على ذلك الفلاسفة؛ فهم الفرائس المفضلة للقلق والعذاب الروحي، ومن ثمَّ المعاناة النفسية.
ومن هذا المنطلق نعرض لكم نبذات قصيرة عن الحياة النفسية، وما بها من معاناة قد عايشها وتعرض لها أبرز الفلاسفة والكُتَّاب، وكانت سببًا في نهج فلسفتهم ورؤيتهم:
أرثر شوبنهاور
فيلسوف ألماني، درس الفلسفة وختمها بحصوله على الدكتوراة عن رسالته: الأصول الأربعة لمبدأ السبب الكافي – وقصد بالسبب الكافي علاقتنا مع العالم الخارجي، وقصد بالأصول الأربعة العلاقة بين المبدأ والنتيجة، وبين العلة والمعلول، وبين الزمان والمكان، وبين الداع والفعل، والصور الثلاث الأولى تخص التطوُّر النظري، أما الرابعة فتخص العمل والفعل.
من أعظم مؤلفاته: العالم إرادة وفكرة.
عاش شوبنهاور حياة الرفاهية التي قد وفرها له والده، ولكنه انتحر! في العام الـ 17 لشوبنهاور أُصيبت جدته بلوثة عقلية – لانتحار ابنها – ومنذ ذلك الحين عرف الحياة الشقية التعيسة، وخاصة أن أمه صبت جام اهتمامها على صالونها الأدبي، فأهملته وعاشت حياة التحرر من كل قيود الفضيلة، زاد شقاؤه بزيادة خلافاته مع أمه إلى القطيعة التامة لها – يُذكر أن سبب القطيعة أنه في إحدى الأيام تشاجر شوبنهاور معها، ودفعته عن درج السُلم؛ فسقط بعض الدرجات، أدى ذلك إلى نفوره منها، وانفصاله عنها حتى الموت. وقد أثر ذلك فيه، وربما هذا ما جعله يشعر بالمقت الشديد تجاه النساء، ويعزف عن الزواج طيلة حياته، عاش وحيدًا بلا زوجة أو أسرة، بلا ولد أو وطن، حين نشر كتابه الأول لم يلق رواجًا أو اهتمامًا، وفسر ذلك على أنها مؤامرة تُحاك من الكُتَّاب والفلاسفة ضده، لم يُعرف له مُعاوِن على الإطلاق، حتى أن الحياة تثاقلت عليه – وقد نعتها بأنها مزحة ثقيلة فُرضت عليه دون خيار – عند عمله كمحاضر في جامعة برلين انصرف الطلاب عنه؛ لتزامن محاضراته مع محاضرات فيلسوف ألمانيا لذلك الوقت جورج هيجل، عاش وحيدًا تنتابه الوساوس والمخاوف بلا أحد في فندق طوال الثلاثين عاما الأخيرة له – لا مرافق سوى كلبه أطما – حبَّذ الانتحار، ولكنه مات وحيدًا بائسًا على كرسي الفطور بالفندق.
ولذلك عُرِف شوبنهاور بفلسفته التشاؤمية؛ فما رأه من الحياة ما هو إلا شر مطلق، واستخلص أن الشقاء والعناء والمرض والألم والموت هم الأساس، وعدا ذلك فهو الاستثناء، ورأى في الحياة أنها صراع مستمر وقتال متواصل لا يهدأ.
ومن أبرز أقواله لتي تبين نهج فلسفته:
كل صبي أحمق يستطيع أن يقتل حشرة، لكن كل علماء الأرض لا يستطيعون أن يخلقوا واحدة.
كل أمة تسخر من الأمم الأخرى، وكلهم على حق.
نحن نتخلى عن ثلاثة أرباع أنفسنا؛ لكي نصبح مثل الآخرين.
التواضع بالنسبة لمحدودي القدرات لا يعدو كونه صدقًا، أما بالنسبة لذوي المهارات العظيمة فهو رياء.
قوة الإرادة بالنسبة للعقل مثلها مثل رجل قوي أعمى يحمل على كتفيه رجلًا كسيحًا يستطيع أن يرى.
يمكن للمرء أن يكون على طبيعته فقط عندما يكون وحده.
الحياة تتأرجح كالبندول بين الألم والملل.
تضحية المرء بصحته في سبيل أي نوع آخر من أنواع السعادة هو أكبر الحماقات.
كل مآسينا تقريبا تنبع من صلاتنا بالآخرين.
الشرف لا يجب أن يُكتسب، بل يجب فقط ألا يُفقد.
التضحية باللذة في سبيل تجنب الألم مكسب واضح.
فريدريك نيتشه
فيلسوف ألماني، ناقد ثقافي وشاعر، أثَّر نهجه في الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث. يُعد فريدريك نيتشه من أهم فلاسفة أوروبا على الإطلاق؛ حيث تُغذي أفكاره العديد من التيارات. من أعظم مؤلفاته: هكذا تكلم زرادشت، ما وراء الخير والشر، إنسان مفرط في إنسانيته.
لقد اتجه نيتشه منذ البداية إلى الانعزال فرضًا وخيارًا؛ فكان ابنًا لأم أرملة؛ توفي والده في الخامسة من عمره، ومن هنا كانت بداية انقلاب وجهه إلى التشاؤم، تأثر بالفيلسوف الألماني أرثر شوبنهاور، وانغمس في قراءة فلسفته وأعماله، وحيدًا، لم يعرف إلا القليل من الأصدقاء – كان كل كتاب جراء عزلته يكلفه صديقًا له وقطع صلة – كانت عيناه ضعيفة النظر حادتين ذات نظرات أُطلق عليها من الفتيات أنها نظرات مخيفة، لم يتزوج، وقد أصابه ذلك بالكآبة، فضلًا عن ما سبق، أُصيب بمرض خطير حصر حياته في آلام الرأس والصداع والاستفراغ، شارف على الموت، إلا أنه ذهب إلى جبال الألب ليتعافى، وهنالك طرح علينا من بعد عزلته أهم كتبه: هكذا تكلم زرادشت، فهو إنجيله الخاص. خلاصة نتاج فكره وتأملاته بعد جم تلك المعانات؛ مزج فيه شعرًا قويًا وحساسًا بمبادئ فلسفية مبتكرة، وأعلن عبره عن ندائه إلى نظرة فلسفية جديدة يجب أن نرى من خلالها.
مقتطف من كتابه هكذا تكلم زرادشت، ترجمة علي مصباح:
إنّهم يحقدون أكثر من أيّ شيء آخر على ذلك الذي يكسر ألواح قيمهم القديمة، يدعونهُ المخرّب المجرم، لكن ذلكَ هو المُبدِع! رفاقًا يُريد المبدع، لا جُثثًا ولا قطعانًا، ومؤمنين أيضًا. رفاق إبداع يريدُ المبدع، يخطّون قيمًا جديدة على ألواح جديدة.
رِفاقًا يُريد المُبدِع، أولئك الذين يعرفون كيف يشحذون مناجلهم. مُخرّبين سيدعونهم الناس، ومُستهزئين بالخيرِ والشّر.
لكنّهم، هم الحاصدون والمحتفلون بالعيد! رفاق إبداع يريد زرادشت، رفاق حصاد ورفاق احتفال بالعيد. ما الذي سيصنعهُ مع القُطعان والرُعاة والجثث؟ لا راعٍ ولا حفّار قبور ينبغي عليّ أن أكون. هذهِ آخر مرّة أتحدّث فيها إلى ميّت!
فرانز كافكا
كاتب وقاص، يعد من أفضل الأدباء الألمان في فن الرواية والقصة القصيرة، حظيت كتاباته باهتمام الكثير من القراء والمبدعين، رأى أن الكتابة بها هدف وجوهر حياته. من أشهر مؤلفاته: المسخ، المحاكمة، رسالة إلى الوالد.
رائد الكتابة الكابوسية، عاش مثقفًا حساسًا تحت وطأة حكم والد مستبد متطلب قوي، ينشغل عنه هو ووالدته بسبب الأعمال التجارية الدائمة المتواصلة – وقد ظهر ذلك واضحًا في رسالته الطويلة في أكثر من 100 صفحة تحت عنوان: رسالة إلى الوالد، اشمئز من اللحوم لعمل جده كجزار وأصبح نباتيًا، توفي شقيقاه قبل أن يبلغ هو السابعة، فسخ خطبته عدة مرات، أُصيب بسل الرئة، ولكن عدم الأكل؛ هو ما أدى إلى وفاته؛ فلم تكن الحقن المُغذية قد عُرفت بعد، وكانت هي المنفذ الأساسي لتغذيته؛ لأن حنجرته قد أُصيبت، وأصبح الطعام يؤلمه ألما شديدًا، توفي عن عمر يناهز الـ 40 عامًا، تاركًا رسالة لصديقه ماكس برود بأن يُعدِم كافة كتاباته – ولكن لم يستجب له برود، وبفضله نُشرت معظم مؤلفات كافكا بعد مماته.
ومن أقواله التي تبين مدى الحزن والمعاناة التي عايشها:
أحاول دائما أن أنقل شيئًا يتعذّر نقله، أن أشرح شيئًا يتعذّر شرحُه، أن أبوح بشيء لا أشعر به إلا في عظامي.
في علاقتي مع الآخرين، جزء طفيف مني يتوسل المواصلة، جزء هائل مني يرغب في الهروب.
كانوا يريدون جميعًا أن يدخلوا إليه في ذلك الصباح الباكر، عندما كانت الأبواب مغلقة، والآن بعد أن فتح لهم أحد الأبواب بنفسه، وكان الآخر قد ظل مفتوحًا على ما يبدو طوال النهار، لم يدخل أي منهم.
لقد أحط نفسي بجدار لا أدعو أحد إلى داخله، ولا أحاول الخروج منه، ربما يكرهونني، وربما يخشونني، لكني مرتاح لأنهم لا يزعجونني.
ومن تلك النبذات القصيرة والأمثلة القليلة، نستخلص أن من جانب المعاناة النفسية تنبثق كتابات ومؤلفات إبداعية، حكمٌ تمهد لنا طريقًا نحو الإبداع، وخبرات حياتية شاهدوها ومروا بها.
فلا لخلق حيز على إبداع، كلماتهم تتشابه وتختلف، تصيب وتدهش، كلماتهم لها وقع مختلف على كل من تترأى أمامه بحدث سابق بموقف مؤثر بنشأة سبق على زمنها زمن، تُبعث من رقاد وتنفِض ما عليها وتأتي بالذاكرة، كلمات واحدة حروف متشابكة تلقي بطابع داخل كل نفس ويختلف شعوره بها.
لكل من يظن نفسه أن ما كتب قد كتب له ويقصده، لمن يجيدون قراءة ما بين الأسطر وفهم معانيه، لمن يرون في كل معنى واضح وصريح غموض، لمن يختلقون فهم على نقيض القصد، كتاباتهم لكم ولي.
The post من المعاناة النفسية إلى الطرح الفلسفي لأبرز الفلاسفة والكُتَّاب appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست