قرار مصيري .. كان على الإمبراطورية العثمانية أن تتخذه حين اندلعت الحرب العالمية الأولى في عام 1914 .. إلى أي الفريقين تنحاز؟
كان ضباط الاتحاد والترقي قد استولوا على السلطة منذ 5 أعوام وأصبحوا أمام اختبار صعب، كان التحالف الألماني العثماني لا تخطئه عين، ولكن الإقدام على الحرب شيء آخر، كان انخراط تركيا بإمبراطوريتها العجوز يحتاج شرارة، وفَّرت بريطانيا على تركيا مجهود التفكير حين استولت البحرية البريطانية على سفينتين حربيتين تركيتين، وضمتهما إلى الأسطول البريطاني في خطوة مستفزة، أما الألمان .. فبسرعة البرق اصطادوا في المياه العكرة بإرسالهم سفينتين حربيتين هدية بدلًا عن السفينتين المسروقتين إلى العثمانيين الذين طاروا فرحًا بهذا السخاء الألماني، وإمعانًا بكرامة الأتراك حجز البريطانيون طرادًا تركيا كان يريد العبور من الدردنيل فلم يكذّب السفير الألماني خبرًا حين ألحّ على الترك بإغلاق البسفور والدردنيل في وجه الملاحة العالمية، وبمزيج من الاستفزاز البريطاني والإغراء الألماني أغلقت تركيا المضيقين لينعزل البريطانيون عن حلفائهم الروس، وتكون بداية إعلان تركيا الحرب منضمة إلى ألمانيا والنمسا ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا…
في عام 1915 م احتشدت القوات العثمانية تحت قيادة ألمانية في فلسطين، وفي خطوة عنترية قرر العثمانيون مهاجمة سيناء عن طريق فلسطين لاستعادة مصر من الاحتلال البريطاني الذي أعلن الحماية عليها، بل ذهبت أحلامهم أبعد من ذلك حين توجهوا صوب قناة السويس آملين أن يضعوا أيديهم على أكبر ممر للملاحة العالمية ! ولكن يبدو أن أحلامهم
كانت على موعد مع كارثة كبرى ! فقد تقدمت القوات البريطانية والفرنسية في سيناء واستطاعت طرد العثمانيين، وفي خضمّ تلك المعارك كان السيد ( مارك سَيْكس) البريطاني والسيد ( فرانكوا بيكو) الفرنسي قد اجتمعا ليحلّا مسألة بسيطة، كيف سوف يتم اقتسام الإمبراطورية العثمانية الوشيكة الانهيار ؟! لقد قسموا الخريطة بين دولتيهما ليتم التطبيق العملي بردّ الصاع صاعين للعثمانيين بمهاجمة فلسطين العثمانية في معركة غزة الأولى والثانية ثم معارك
أخرى تالية ليكتمل المشهد الملحمي بدخول الجنرال (إدموند الليمبي) القدس سيرا على الأقدام مهابة وإجلالا لهذه المدينة المقدسة ! ، سريعا سقطت بغداد ودمشق وبيروت والأردن ، وكانت فلسطين والعراق والأردن من نصيب بريطانيا تبعا لاتفاقية (سايكس – بيكو).
على عتبات القدس أرسل وزير الخارجية البريطاني (أرثر بلفور) رسالة إلى السيد (روتشيلد) المصرفي البريطاني اليهودي والصهيوني الأصيل يعِدُه فيها بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين مع احترام الحقوق الأهلية والدينية لغير اليهود -لذرّ الرماد في العيون !- ثم بعد انتهاء الحرب وتدمير وتفتيت الإمبراطورية العثمانية تسمح الإدارة البريطانية لليهود من كل حدب وصوب في العالم بأن يهاجروا إلى فلسطين التي صارت أرضا مستباحة لتتوج تلك الهجرات بحلم (هرتزل) القديم بأرض الميعاد في عام 1948 م ، و في مشهد درامي أليم ينكّس العلم البريطاني ليُرفع مكانه علم ذو خطين أزرقين بينهما نجمة وتبدأ أعقد قضية سياسية عرفها العصر الحديث، إنها القضية الفلسطينية !
إن وعد بلفور كان أول نجاح كبير تحققه الصهيونية في سبيل قضيتها ، إنه ليس نجاحا فحسب ، بل هو انتصار ساحق للإرادة اليهودية وإنجاز جبّار يعجز العقل البسيط عن تصوّره، لقد كان الحلم اليهودي بتأسيس وطن قومي خيالا
فصار حقيقة ! لك أن تتصور كيف لمجموعة قومية دينية مشتتة في كل دول العالم أن يكون لها قيادة ذكية تستطيع إقناع القوة العظمى آنذاك بتحقيق هذا الحلم المحال، لقد تمثلت تلك القيادة الذكية في (حاييم فايزمان) رئيس المنظمة الصهيونية العالمية،ذلك الدكتور الكيميائي الذي سخّر علمه وعبقريته لخدمة قضيته، لقد كان البريطانيون
يحتاجون مادة (الأستون) لصنع الذخائر وكانوا يستخرجونها من الأخشاب، وكانت محدودية الخشب عائقا أمام تلك الصناعة الحربية فما كان من (فايزمان) إلا أن اكتشف طريقة كيميائية جديدة لصنع الأستون من التخمّر البكتيري ليساهم بدور بارز في دفع عجلة الحرب لصالح بريطانيا العظمى، لم تنس بريطانيا هذا الجميل لفايزمان كما لم تنس
رسالة سلفه (تيدور هرتزل) إلى (لانسدون) وزير الخارجية البريطاني في عام 1902 م: ( هناك قريب من عشرة ملايين يهودي في العالم لا يستطيعون في جميع البلدان أن ينتموا إلى إنجلترا علنًا إنما سينتمون إليها بقلوبهم إذا هي قامت بعمل مثل هذا فأصبحت حامية للشعب اليهودي ، وفي لحظة تستطيع أن تعتمد على عشرة ملايين موالٍ مخلص لها في جميع
أنحاء العالم وإن كان ذلك في السر، بعضهم بائعو إبر وخيوط في قرى الشرق الصغيرة ولكن بعضهم الآخر تجار كبار وأصحاب مصانع ومديرو بنوك وعلماء وفنانون وصحفيون وأصحاب أعمال أخرى ، جميع هؤلاء سيكونون رهن إشارة الأمة العظيمة التي ستمهد لهم المساعدة المطلوبة ، سيكون لإنجلترا عشرة ملايين عميل من أجل عظمتها وسيطرتها وهذا الولاء لابد أن يكون على الصعيدين السياسي والاقتصادي).
لقد كان اليهود في أوروبا عبئا على الأوروبيين فقد اضطَهد الأوروبيون اليهود كثيرا وهجّروهم كثيرا بعد أن ضاقوا بهم ذرعا، وكانت فكرة خروج اليهود من أوروبا وتجمعهم في وطن بعيد عن أوروبا حلّا سعيدا يُرضي الطرفين في نفس الوقت وبذلك يكون تمهيد الطريق لإقامة وطن يهودي في الشرق الأوسط ضربا لعصفورين بحجر واحد، التخلص من اليهود ومشكلاتهم في أوروبا وضمان ولائهم بعد قرون من الضغائن، أضف إلى ذلك أن وجود جسم غريب من اليهود داخل الشرق الأوسط العربي المسلم سيكون انتقاما مناسبا من العرب والمسلمين العدوّ التاريخي القديم للحضارة المسيحية الغربية بجعل دولة إسرائيل المستقبلية مسمار جحا الذي سيمكن الغرب من التدخل في الشرق الأوسط بحريّة وتمزيقه بطريقه شيطانية!
لم يكن التخطيط لتجميع بني إسرائيل في وطن واحد ذا هدف سياسي واجتماعي فحسب، بل أخذ بُعدًا دينيا بعد نشوء الاتجاه البروتستانتي التدبيري في القرن التاسع عشر الذي آمن بأن قيام دولة يهودية شرط لإتمام نبوءة الكتاب المقدس بنزول المسيح في آخر الزمان لذا بلفور لم يكن رجل سياسة فقط وإنما كان تديّنه سببا في وعده لليهود على رغم مواقفه السابقة المعادية لهم.
اليوم في 2017 م مر مائة عام على وعد من لا يملك لمن لا يستحق وهو ما أثار مشاعر بعض البريطانيين فقام 11 ألف بريطاني بتقديم طلب للحكومة البريطانية للاعتذار الرسمي للشعب الفلسطيني عن وعد بلفور المشئوم، ولكن حكومة (تريزا ماي) كان ردها هو الرفض المطلق بل زاد استفزازها للجميع بتعبيرها عن فخر بريطانيا بظهور دولة إسرائيل للوجود على يديها.
نفس الطلب قدمه مجلس العلاقات الدولية في فلسطين المحتلة إلى بريطانيا بل كان كذلك طلب رئيس الحكومة الفلسطينية (محمود عباس) أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي ولكن رد الفعل البريطاني سيكون أبلغ من الكلمات؛ ففي نوفمبر من هذا العام سوف تنظم بريطانيا احتفالات مع مسئولين إسرائيليين بمناسبة تلك المئوية العظيمة !
هذا هو ملخّص القصة ذات الأعوام المائة، قرن كامل من الجهد اليهودي الدؤوب المثير لإعجاب العالم ليموت العرب والمسلمون بحسرتهم وليبكوا أطلالهم ولينشغلوا بمآسيهم التي كان ضياع فلسطين هو جُلّها لتصير الآن واحدة من عشرات المآسي والفواجع التي يُنسي بعضها بعضًا وما لجُرح بميت إيلام …
The post وعد بلفور .. حكاية عمرها مائة عام appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست