هل نعبد الله طمعًا في الجنة وخوفًا من النار؟ أم نعبد الله لأنه يستحق العبادة؟ هل هي درجات للقرب من العظمة الإلهية؟
فالذي يعبد الله طمعًا يختلف في درجة القرب عن الذى يعبده استحقاقًا. وهل الطريقتان يلتقيان عند نقطة معينة ويمتزجان عند أخرى؟
ما معنى العباده أصلًا؟ هل هي عبادة الإله المتربع على عرشه عن طريق خطوط عريضة، كالصلاة والصوم، أم تحتوي معنى العبادة على أمر أكثر عمقًا وأوسع فهمًا، كالأخلاق والمعاملات والصفات الشخصية والحب والكره لكل ما هو غير إنسانى؟
في القرن الرابع الهجري، وقف الحلاج بعد أن قطعت يداه وهو يشير بالدماء التي تتدفق من يديه على وجهه، وكأنه يتوضأ، فسأله الناس: ماذا تفعل؟ فقال: ركعتان في العشق، لا يجوز وضوؤهما إلا بالدم، وهذا نوع آخر من العبادة، قد لا يكون له أصل في التشريعات الربانية التي أنزلها الله إلى عباده، ولكنه – لا شك – تقشعر منه الأبدان … ما هو الرابط الخالص الذي يجعلك تعشق بهذا القدر من الإخلاص والحب والوفاء .. فتخرج لبعض الوقت من الإطار الإنسانى إلى إطار آخر شبه ملائكي؟
لا شك أن الإنسان خلق ليعمر الأرض عن طريق عبادة الله بمعناها الأشمل، فالمساعدة في تطور البشرية .. وإرثاء قواعدها، لا شك أنه من أهم العبادات التي تجاهلناها في الفترة الأخيرة العبادة الشاملة التي تجعلك تصلى، وتصوم وتعامل الناس بخلق حسن وترفض كل ما هو غير إنسانى بالإضافه إلى عمارة الأرض بالمعنى الدنيوي حيث العمل والجهد والتضحية لخدمة البشرية كاملة، وليس انتماء لفكرة ضيقة أو أصحاب جنس واحد أو لغة واحدة أو حتى دين واحد أما البعد الثالث النقى الطاهر، وأيضًا المتهم هو البعد الأشبه بالتصوف الذى تفرغ لعبادة الله بمعنى لا يدركه الكثير من البشر معنى غريب على إسماع الكثير من البشر والقليل منهم يقول إنه معنى فيه خروجًا عن المله واتهامًا بالذندقة والكفر وأحيانًا يؤدى بصاحبه إلى القتل والتنكيل والعذاب.
إذا هجرت فمن لي
ومن يجمل كلي
ومن لروحي وراحي
يا أ كثري وأقلي
أحبك البعض مني
وقد ذهبت بكلي
يا كل كلي فكن لي
إن لم تكن لي فمن لي
إنه عشق خالص تتهدم فيه جدران المعارف والألغاز لتظهر لبشرى اقترب من الإله الواحد لدرجة لا تتخيل يجعله غير مهتم بإفشاء تلك الأسرار وغير مهتم بالبشرية كلها ماذا تفعل أو ماذا يفعل بها أو ماذا يفعل به، إنه أمر غير معتاد ولك كل الحق أن لا تصدقه، ولكن هناك في حياة الجميع لحظات قصيرة عابرة تجلى فيها الله، لك فأدركت إنك طائر بجناحيك في ملكوت عظمته وهذا التجلى يهز الكيان ولا بد أن يأتى لجميع البشر على مختلف أحوالهم فهو جزء من الرسالة الربانية كالأنبياء ويأتى هذا التجلي في لحظات أدركت أنت فيها معنى الوجود ومعنى القرب من الإله فتجلى هو لك، واقترب منك أكثر مما انت اقتربت والتجلى هنا ليس تجليًا ماديًا وإنما تجليًا قلبيًا يخترق جنبات القلب فتدركه للحظات، ولكن سرعان ما يغيب هذا التجلى وترجع لدنياك متأسفًا على انتهاء تلك اللحظات التي أردت أن تخلدها وتكتبها وتوصفها حيث غالبًا سيخونك وصفك ولن تقترب حتى من وصفها.
عجبت منك ومنى يا منية المتمنى
أدنيتنى منك حتى ظننت أنك أنى
وغبت فى الوجد حتى أفنيتنى بك عنى
يا من رياض معانية قد حويت كل فني
وإن تمنيت شئ فأنت كل التمني
هناك ثلاثة أصناف من الناس سيقرأون كلام الحلاج هذا بثلاث طرق، الصنف الأول من الناس سيرى أن الحلاج هذا كافر، كفر بالإله العظيم الذى لا يمكن أن يوصف بهذا الوصف فكيف يكون الإله هو أنت أدنيتنى منك حتى ظننت أنك أني.
وصنف آخر يرى فى الحلاج رجلًا من المجازيب الذين اختل عقلهم، ولا يجوز محاسبته على ما يقول أو يفعل، وصنف آخر يرى آن الحلاج الشاعر يختلف عن الحلاج الذي يقول رأيا معينًا وذلك لأن الشعر من جمالياته الأوصاف التى قد تكون غير مألوفه وغير معتادة فهو يقصد بذلك أنه من شدة قربه من الله ظن أنهما واحد وهذه مبالغة تضيف على الشعر جمالًا، ولا يقصدها بمعناها الحرفى، وفى الواقع، ولو توغلت أكثر في شخصية الحلاج، ستجد أمرين متناقضين تمامًا.
أولهما أن الحلاج كان يقصد كل حرف فى هذه القصيدة بمعنى أنه اقترب من الله بمعنى لم يدركه بشر كثيرون، لدرجة أن لحمه وعظامه، وكل تفاصيله أصبحت إلاهية، وأيضًا هنا ليس المعنى المادي، فتخيل معى أنك ابتكرت شيئًا ما، ولتكن إلهًا معينًا، فيصبح هذا الإله أنت؛ لأنك أنت خالقه، وبالرغم من اختلاف مادة صنعكما – أنتما الاثنان – فهى من حديد وأنت من لحم ودم، إلا أنه يعبر عنك بشكل ما، يعبر عن أفكارك، وخلاصة جهدك، وهذا ما كان يقصده الحلاج على حد فهمي.
وثانيهما أن الحلاج لم يكن أبدًا ذلك الشخص التافه المجنون أو محدود الذكاء، ولذلك كل ما قاله الحلاج أصبح بعد ذلك مرجعًا من أهم المراجع الصوفية، وإمامًا من أئمتهم، بالطبع أنا لا أدافع عن الحلاج أو ما قاله، ولا أنتقده بشكل فج، وإنما انا فقط أقف على ما كتب الحلاج من شعر وآراء، وأدرك أنها ليست آراء تافهة ولا كفرية، وإنما هي كتابات لا شك تقشعر لها أبدان العارفين بالله والمتقربين منه، أيعقل أنه يكون هناك درجة قرب إلهية إلى هذا الحد أن تكون إنسانا ملائكيًا يمشي على هذه الارض وعلى العموم في التشريع الإسلامي؟ هناك أشياء قريبة جدًا من هذا المعنى، وإن لم تكن تتفق معه بشكل كامل، ففى حديث أبي هريرة، الذي رواه البخاري يقول: ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. إلى آخر الحديث.
وقد سأل أحد الأعراب الحلاج قائلًا: ما في جعبتك، فقال ما في جعبتى غير الله، فأخذها الأعرابى بمعناها الظاهر، ودار يقول: إن الحلاج يخبئ الله داخله. وهذا ما لم يكن يقصده الحلاج طبعًا، فلا شك أن الله بداخل كل إنسان أراد القرب منه وفهم عظمته.
لى حبيب حبه وسط الحشا إن يشأ يمشي على خدى مشي
روحه روحي وروحى روحه إن يشأ شئت وإن شئت يشا
يقول الحلاج هنا أن روح الله هى روحه، وأنه إذا أراد الله، فهو يريد، وإذا أراد هو، يريد الله، وهذه درجة أخرى في القرب من الله: أن تمتثل لعظمته وتقترب منه لدرجة أنك لا تريد من الدنيا كلها إلا الذى يريده الله، وإذا اراد الله شيئًا فإنه لا شك سيوافق ما تريده أنت؛ لأنك لا تريد إلا الذى يريده الله، وسواء اختلفنا أو اتفقنا مع ما طرحه الحلاج، فإنه لا شك يقدم طرحًا جديدًا غريبًا من نوعه لا يعيه الكثيرون منا، وأنا في الحقيقه أعتبر أن ما قاله الحلاج هو درجة قرب من الله لم أصل إليها بعد، ولكنها قد تكون موجودة، فلا نستعجل فى الحكم عليها، ربما ندركها فى وقت ما.
وفيما يعتبره الكثير تناقضًا، قال الحلاج إنه من ظن أن الإلهية تختلط بالبشرية أو البشرية تختلط بالإلهية فقد كفر، فإن الله تعالى تفرد بذاته وصفاته عن ذوات الخلق وصفاتهم. وهذا معنى ظاهري يختلف عن كثير مما قاله فى شعره، ولكن – وكما قلت – ربما وصل هو لدرجة عشق وقرب لم نصل لها بعد، فبالطبع سيكون إدراكها مستحيلًا أما من وصل إليها فهو مدركها بالفعل.
وفى النهاية: إن العلة من الخلق هي أن نبحث عن الحق أينما كان، سواء كان الحق هذا في عبادة الله بالمعنى الأول: الصلاة والصوم والأخلاق وعمارة الأرض، أو كان البحث فى درجات القرب من الله غير الظاهرة، والتى تأتى من التعمق فى البحث والتعمق فى الحب، ولا مانع أبدًا أن نسير على الخطين بشكل متواز، دون أن يتأثر أى خط بالخط الآخر، فلنبحث عن حب الله، وهذه الدرجة القريبه منه ونحن نبتسم ونزرع ونصنع ونصلى ونصوم…
والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي
ولا جلست إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي
ولا هممت بشرب الماء من عطش إلا وجدت خيالًا منك فى الكاس
محمد زكريا
The post قواعد العشق الإلهي والعبادة appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست