السبت، 1 أبريل 2017

ثقفني اون لاين : مصطفى صادق الرافعي الذي لا تعرفه.. «رحلة إلى الداخل»

يختطفك من قلبك بِشذا عِطره المَخبوء في روحه الباذخة، كأنه ساحرٌ مسّه طيفٌ من البلاغة الرائقة، فانسابتْ الحروفُ من مَحبرَته بيانًا وشعرًا كأنها الندى يَسري عذوبةً في حاشية اللغة؛ وهكذا يعرفُ كل من خالطَ الرافعي في رحلة الأدب، فهو معه يهفو حينًا ويحترقُ أخرى، وينساقُ مرةً بعد مرة، فلا تكاد تفرغُ منه إلا وتعود إليه مُنصتا.

فهذه فكرة لا تزال تدندنُ في جوف أذنيك؛ وتلك رسائل الحب طافت على أفئدة العاشقين؛ فاستقرتْ حروفها مترددة على الشِفاة، كأنما اشتهى الصوتُ موسيقاها، وحنّ القلبُ إلى إيقاعها؛ وهذه راية القرآن أقامها بذائقة أدبية لم تقتربْ أبدًا من ركيك اللغة ولا من هذيان المعاني؛ وتلك أحزانه خاضها طفلًا، فأرسلَ مدامعه بين السطور حتى كادت الحروفُ أن تضيق بمعانيها.

وكلما اقتربتُ من صاحب «الصغيران» وجدت نفسي تشرد بعيدًا، إلا أنني قررتُ اليوم أن أقرأ للرافعي من الداخل، فلربما تتفاجأ بأنك لا تعرفه.

لا يعترف بالوطن

«والذاتيةُ الفانيةُ هى مادةُ الشرِ في هذه الأرض»

لم يكن الرافعي يعترف بالأوطان المبعثرة، ولا بالحدود الفاصلة، وكان يعتقد أن وطنه هو كل أرض تخفق فيها راية الإسلام؛ ولعل اختلاط الأنساب والدماء في قصة سليل عائلته هو السبب الذي جعله يفهم حقيقة المجتمع المسلم ويؤكدها كثيرًا؛ فرأس أسرة الرافعي سورية الأصل، وتنحدر نسبها من عبدالله بن عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين رضى الله عنه، وعائلته هى التي أعادت المذهب الحنفي إلى مصر ونشرته مرة أخرى.

وبالرغم من أن نسبه كان شريفًا في سوريا وعزيزًا في مصر، إلا أنه لم يكن يبدو عليه أنه يختلف عن عوام الناس، ولم يكن يسعى للتفاخر، وكان وصفه غريبًا لا يتفق وشخصه الكبير، فقيل فيه بأنه «رجلا كبعض من ترى من الناس، فلم يكن الناظر إليه يلمح له امتيازًا في الخلق يدل على نفسه أو عقله أو عبقريته، بل لقد يشك الناظر إلى وجهه في أن يكون وراء هذه السحنة نبوغ أو عبقرية أو فكر سام».

وقد صمت الرافعي متجاهلًا صنوف الأقلام التي تصيدته في البداية، فلما اشتدت الأقاويل، انتفض غاضبًا فكتب: «أفتراهم يتهمونني في مصريتي لأنني في زعمهم لستُ مصريًا، وفي مصر مولدي وفي أرضها رُفات أبي وأمي وجدي، أم كل عيبي عندهم في الوطنية أنني صريح النسب؟، وإلا فمن أبو فلان وفلان؟، ومتى استوطن هذا الوطن».

والرافعي هو الذي نظم قصيدة «اسلمي يا مصر» في عام 1923، والتي أصبحت نشيدًا وطنيًّا تغنت به الدولة الملكية طيلة 13 عامًا، وما زال إلى الآن شعارًا لكلية الشرطة المصرية، والرافعي كتبَ أيضًا للتونسيين نشيدهم الوطني «حامي الحماة»، وما زال الأشقاء يرددونه إلى اليوم، ليثبت دائمًا أنه مصري المولد، عربي الأرض، إسلامي الوطن.

فلسفة المرض والحزن

«إنَّ المرء إذا حزن استدعى كلَّ أحزانه السابقة، كأنّ حزنًا واحدًا لا يكفيه»

ربما تتفاجأ بأن الرافعي أصابه مرض نال من صوته في سن مبكرة؛ يحكي تلميذه سعيد العريان تلك الفترة في كتاب «حياة الرافعي»، فيقول: «فبعدما أتم الشهادة الابتدائية أصيب بالتيفود، فما نجا منه إلا بعدما ترك في أعصابه أثرًا كأنه حبسة في حبائله الصوتية، ووقرًا في أذنيه من بعد».

وحين يُصاب الأطفال بجرحٍ لا يندمل، لا سيما مرضًا ليس له شفاء، حينها يتراكم الحزن رويدًا ويتعاظمُ شيئًا فشيئًا في قلب صاحبه؛ والرافعي استدعى كل أحزانه منذ كان صغيرًا وبثّها في كتابه «رسائل الأحزان»، فكأنه ادخر كل دموعه في ربيعه الذي لم يعشه إلى ذلك الكتاب.

وكان الرافعي عندما يتحدث يبدو صوته كأنه يلهثُ من بعيد، إضافة إلى الحبسة التي كانت تثير الضحك منه، ومع مرور السنين تضاءلت الأصوات في أذنيه حتى فقد إحداهما، وبقي بواحدة أصابها الصمم، حتى انقطع عن الأصوات تمامًا وهو في الثلاثين من عمره.

وكتب حينها عن علته فقال: «إذا عجز الناس أن يُسمعوني، فليسمعوا مني»، وكان مرضه سببًا في انقطاعه للقراءة ولمكتبة أبيه، وكان يتحدث الفصحى ولا يعرفُ من العامية إلا القليل، نظرًا لانقطاعه عن دنيا الناس في أغلب الأوقات.

ضعيفًا أمام الحب

«وآهٍ لحوادث الحبّ، كأنما هي تقع لتغيِّرُ من الحياة في أيامٍ قليلةٍ ما يغيِّر العمر الممتدُّ في سنواتٍ متطاولة»

«يا زجاجة العطر.. اذهبي إليها، وتعطري بمسِّ يديها، وكوني رسالة قلبي لديها.. وها أنا ذا أنثر القبلات على جوانبك، فمتى لمستك فضعي قبلتي على بنانها، وألقيها خفية ظاهرة في مثل حنو نظرتها وحنانها، والمسيها من تلك القبلات معاني أفراحها في قلبي ومعاني أشجانها.. وها أنا ذا أصافحك فمتى أخذتك في يدها فكوني لمسة الأشواق.. وها أنا ذا أضمك إلى قلبي فمتى فتحتك فانثري عليها في معاني العطر لمسات العناق».

يقول سعيد العريان، أقرب الشخوص إلى الرافعي في حياته: «كان أديبنا –على دينه وخلقه ومروءته- ضعيف السلطان على نفسه إذا كان بإزاء امرأة؛ فما هو إلا أن يرى واحدة لها ميزة في النساء، حتى يتحرك دمه وتنفعل أعصابه»؛ فالحب عنده كان وسيلة الوحي والإلهام، وحيلته لإشعال ذهنه المتقدة، وأداة لخواطره وأشعاره.

وأصبح الرافعي مُغرمًا بالحب وهو في الحادية والعشرين من عمره، يتمنى أن يصل إلى مراتب العشاق، حتى دق قلبه أول مرة لفتاة ذكرها التاريخ باسم «عصفورة»، ومن وحي هذا الحب كانت أعظم أسبابه في كتابه ديوان كامل من القصائد الغزلية اشتهر به، وانتهت قصتهما بالقطيعة، لتتركه عاشقًا احترق بنيران الفراق؛ وكان الرافعي إذا أحب أن يكتب قصيدة أو رسالة غرامية، هفا قلبه إلى الحب؛ كأنه يقول لفتاته دعيني أحبك لأن في صدري أبياتًا من العشق الحبيس أريد لها الخلاص، وكان يُسمي كل جميلة «شاعرة» لأنها تمنحه الشعر.

وعلى الرغم أن الرافعي أحب زوجته حبًا جمًا، إلا أن رجلا كالرافعي لم يكن له سلطان على قلبه، فما إن تتحرك أشواقه تجاه امرأة لا يلبثُ إلا أن يحبها، وينشدها رسالة من رسائله؛ وكانت كل أعماله ثمرة حب عاشها؛ فكتاب «حديث القمر» كان ثمرة حب بينه وبين شاعرة لبنانية تُدعى «ماري يني» أحبها، واستمرت بينهما الرسائل طويلاً.

وقد وصفها في «السحاب الأحمر» منشدًا: «رأيت وجه فتاة عرفتها قديمًا في ربوة لبنان، ينتهي الوصف إلى جمالها ثم يقف، كنت أرى الشمس كأنما تجري في شعرها ذهبًا، و تتوقد في خدها ياقوتًا، وتسطع من ثغرها لؤلؤة»؛ إحدى رسائلها كتبت إليه: «أأنساك؟!.. قد أتسامح للذاكرة أن تستبد بي ما شاءت، ولكني لا أجيز لها أن تتعدى هذا الحد المقدس، هذه مكانتك من نفسي، وهي مع سعتها قليلة في نظري إلى جانب ما تستحق».

وحينما تخطى الأربعين من عمره لم يكن يعلمُ أنه على موعد مع الفتاة التي ستجعله يبكي وينتج أعظم كتاباته الأدبية؛ وكان يُشير لها دائمًا بـ «هي» بينما كانت في الحقيقة «مي»، معشوقة الأدباء والشعراء في عصرها «مي زيادة».

قابل الرافعي فتاته لأول مرة في صالونها الأدبي، ولم يكن يعلمُ حينها أن محبوبته قد وصلت أواصر العشق في رسائلها مع جبران خليل جبران إلى الحدّ الذي لا حدّ له؛ لكن الرافعي كان في عالم آخر بدا جليًا في كتاباته فيما بعد، فكان شديد الحب والغيرة والهُيام، وكان يمارس الكبرياء في حبه فرفض الاعتراف لها، وأهداها زجاجة العطر الشهيرة التي حوت دقات قلبه بداخلها، لكنها أهملته في مجلسها ولم تلتفت إليه، ربما لأنه متزوج، وربما لأن قلبها مسافر منذ زمن إلى شاعر المهجر؛ وذاق الأديبُ شعور «الرفض» لأول مرة في حياته، فهجر صالونها إلى غير رجعة، وبدأ يرسل مدامعه في رسائله الباقية.

دفعه غضبه وكبريائه وحبه -الذي يزل يعذبه حتى الممات- إلى أن يكتب إليها كتاب «القطيعة»، ثم لم تهدأ نفسه، ففزع إلى قلمه يشكوه قلبه الجريح، وحبيبته التي أهانته دون شفقة، فشرع في كتابة «رسائل الأحزان»، ثم لم يرضَ فزاد في بكائه فكتب «السحاب الأحمر» وكان الأخير عنيفًا كأنما يُعاقب نفسه الجياشة، فيدور الكتاب حول فلسفة البغض،وطيش الحب، ولؤم المرأة؛ ولما رأى من نفسه أن كتاباته كلها إنما تقول شيئًا واحدًا «إنني أبغضك أيتها المحبوبة»، ثم بعد سبع سنوات أخرى عندما لم يُشف عاد مرة أخرى ليكتب عن الحب في «أوراق الورد».

كيف كان الرافعي زوجًا وعاشقًا في وقت واحد؟

«لا يصح الحب بين اثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا»

وأغرب ما في قصة الرافعي أنه لم يتزوج عن حب، بل كان زواجه تقليديًا إلى حدّ غريب؛ وتزوج وهو في الرابعة والعشرين من عمره من أخت صديقه الأديب «عبدالرحمن البرقوقي»، وهو لم يخترها ولم يرها من قبل، بل كانت كل أمنيته أن يتزوج فتاة تشبه تلك التي في خيالاته وأحلامه، فلما عرض عليه رفيقه الزواج من أخته وافق بشدة دون أن يقابلها، ولعلها إحدى سمات العصر، أو هى إحدى صفات الرافعي أنه كان يتبع قلبه وخياله دائمًا.

وعاش الرافعي مع زوجته ثلاثة وثلاثين سنة من الحب والغزل، ولم يتخاصما إلا مرة واحدة؛ لأزمة في عائلتها ليست لها يدٌ فيها، وكان الزوجان يعرفان لبعضهما الحق والفضل، ودام حبهما أبدًا والاحترام والعطف والفضل.

إلا أن قلب الرافعي غلّاب الهوى، لا يستقيم ولا يرضى بواحدة، فالحب عنده لا يأبى الشركة، وهكذا دومًا هو قلب الرجال؛ فلما اشتد عليه الأمر كتب خواطره «إن في بيتي امرأة أحبها وتحبني، وإنّ لها عليّ حقًا ليس منه أن يكون مني لغيرها نظرة أو ابتسامة إلا أن تأذن لي»، ثم عنّف نفسه واسترسل «ماذا يكون من أمري غدًا أمام الله حين يطلب كل ذي حق حقه، أأقول لها إنني ضيعتُ حقك وأعطيت قلبي الذي لا أملك لمن لا تملك».

ويقول سعيد العريان إن الرافعي ذهب إلى زوجته فحدثها وحدثه، وكشف لها عن نفسه ثم قال: «وأنت يا زوجتي هل يخفى عليكِ مكانك مني؟»، ثم يفاجئنا بأن زوجته قد أذنت له في الحب، وكان عهد الزوجين أن الرافعي كان يكتب رسائله إلى صاحبته التي عذبت قلبه، ثم يعطيها لزوجته حتى تقرأها، ثم يرسلها إلى البريد؛ وعندما يأتي الرد، تقوم زوجته بقراءة الرسالة، واتفق الزوجان على هذا المبدأ سويًا «لا ترى زوجته لها حقًا عليه إلا أن تعرف، ولا يرى على نفسه في ذلك ملامة، مادامت زوجته تعرف».

وليس غريبًا أن يستمر هذا الحب طيلة ثلاثة وثلاثين سنة، لا يشوبه خصام أو جفوة، مادام القلبان قد اتفقا، وكانت زوجته تعرف مكانته الأدبية، فكانت تعامله في البيت معاملة الملوك، وتوفر له من سبل الراحة والاطمئنان ما يضمن سريان قلمه على الصحف.

والرافعي حين كتب عن الحب والألم والحزن والزواج، لم تكن تلك الصور لتكتمل إلا حين نعرف أن صاحب «وحي القلب» كان يكتبُ عن نفسه فكأنما كانت الكلمات تخرج مشتعلة من صدره لا من قلمه؛ وصريحًا إلى درجة أنه اعترف أن هجومه على عمالقة الشعر في شبابه كان من نزوات الشباب الذي يبحث عن الشهرة، كما أنه حين تمت مُهاجمة أدبه بأنه «أدب الفقاقيع»، قرر أن يبحث عن لغة مثالية تناسبه، حتى اصطدم بجملة: «السماء صافية كأنما غسلتها الملائكة بالليل» لـ«هوجو»، فقرر أن يسير على خُطاها؛ جزالة اللفظ، يُصاحبه عُمق المعنى.

لقد كان الرافعي عظيمًا في حبه، مثاليًا في زواجه، متفردًا في أدبه، ولا نزال إلى اليوم نؤمن أنه «هو الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالب من البيان»، كما قال الزعيم مصطفى كامل.

The post مصطفى صادق الرافعي الذي لا تعرفه.. «رحلة إلى الداخل» appeared first on ساسة بوست.



لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست