قلما تجد من يمكنه الجمع بين النقيضين في غير تنافر. لكن عزالدين شكري فشير كما يحب هو دائمًا الإشارة إلى اسم جده، استطاع جمع متناقضات عدة في آن واحد. ولم لا؟ وهو ابن المنصورة الذي تنحدر أصوله من المنزلة معبرة عن انتماء راسخ للطبقة الوسطى المصرية، بكل قيمها وثقافتها، والمحلل السياسي البارع الذي يعلم مواطن الخلل ومواضع الصواب، بما يجعله جديرًا بالتوقف أمامه وإمعان النظر فيه كنموذج يشكل رقمًا صعبًا في معادلة النخبة السياسية والثقافية في مصر.
هو أستاذ بالجامعة الأمريكية في القاهرة، بما يعنيه ذلك من كونه أكاديميًا يحمل من التأهيل العلمي ما يؤهله بامتياز لخوض غمار التدريس والعمل البحثي في أرقى الجامعات في أفضل القارات «كلية دارتموث مثالًا»، وهو أيضًا دبلوماسي مرموق، ليس فقط كونه سفيرًا سابقًا ذا باع في دولاب العمل الحكومي، بالنظر إلى عمله في وزارة الخارجية، وإنما أيضًا باعتبار المناصب الاستشارية الرفيعة التي تقلدها في الأمم المتحدة، كونها الكيان الدبلوماسي والسياسي الأوسع في العالم، وأخيرًا هو كاتب روائي يحمل من الخيال والجرأة ما يجعله معبرًا بصدق عن أحلام قرائه من الشباب سنًا والكبار فكرًا وروحًا.
إلى هنا القصة لا تنتهي، بل لعلها حتى لم تبدأ بعد. أما كونه مصريًا فهو بديهي بحكم المولد والنشأة والانتماء. لا يختار أحد موطنه أو محل قدومه إلى هذا العالم. ليست المصرية مسألة جنسية وهوية، وإن كان لا بد وأن نشدد على أن الرجل حتى بهذا المفهوم مصري حتى النخاع، وإنما أن تكون مصريًّا هو أن تشعر بحق بما يشعر به أغلب الشعب فقراؤه قبل أثريائه، وفلاحوه قبل متمدينيه، وليس الأمر فقط بالشعور بل التعبير والسلوك. ولم لا؟ وهو مولود في الأقاليم، ومتعلم في مدارس العامة، ودرس في جامعاتهم، وسكن مدنهم الجامعية كمغترب في عاصمة القهر، وعمل في مؤسساتهم سفيرًا لهم خارج حدودهم، يدافع عن مصالحهم وحقوقهم. يتحدث لغتهم، ويمتاز بخفة روحهم حين يقول متهكمًا ذات مرة «شيلنا شاهين وجبنا ألدو، مفرقتش». أما العالمية فهي اختيار حر وانحياز مستقل ودليل نبوغ لا ريب فيه. ليست العالمية إجادة لغات غير اللغة الأم، وإن كان صاحبنا يبرع في ذلك بحكم سنين قضاها في بلاد الغرب لأغراض دراسة علوم السياسة والعمل في منظمات البحث ومؤسسات التقصي وجهات حل الأزمات. وإنما هي أن تفهم كيف يفكر العالم، وعلى أي أساس يبني منطقه، وفي أي اتجاه يحرك سياساته. ومن ثم يمكن الجزم بيقين لا يشوبه مراء أن فشيرًا مصري بلمحة عالمية، لا لأن من مقالاته ما نشر في دوريات ذات صيت تقرأ في كافة أرجاء المعمورة، ولا لكونه أنيقًا في ملبسه ومنطقه، ولا حتى لقضائه قسطًا من سنين عمره بين الفرنجة وأهل كندا وبني إسرائيل، لكن لأنه محلل فذ لأحداث عالم البشر كاشفًا ما وراءها وما يحركها ومآلاتها للقارئ المتابع بأسلوب يعد أبلغ تصويرًا للمختصر المفيد، وأصدق تعبيرًا عن السهل الممتنع.
وللحق ليس كل من عمل خارج المحروسة يعد عالميًا، ولا بالضرورة كل من حمل أرفع درجات العلم دراسةً وتدريسًا يعد جهبذًا في محرابه، إلا أن فشيرًا لا ينفك محافظًا على تألقه الذي يزداد بريقًا حتى بعد تجاوزه نصف قرن من العمر، بمشاركات قلم تتسم بغير الدقة في مراكز البحث وقاعات الدرس وساحات النقاش بدءًا من ساقية الصاوي في الزمالك، مرورًا بالجامعة الأمريكية في القاهرة، وصولًا إلى جامعة ييل شرق بلاد العم سام، ناهيك عن كثير فيما بينهم.
لا يبدو إعمال العقل منتشرًا تلك الأيام، لا في أرجاء المحروسة، ولا حتى في غيرها، إلا أن فشيرًا يبرع أكثر ما يبرع في تنحية المشاعر جانبًا، وجعل العقل قائدًا لا تابعًا في أي تفكير أو تدبير. يدعو للمواءمة والتنظيم في السياسة وفي غيرها حتى وإن بدا الآخرون على غير إدراك لما يدعو إليه، معتبرين ما يبشر به هراءَ، فإذا به يعاجلهم بعمل من إبداعه معنون بما يتهمونه به ومبدوء بتحذير ذي لهجة متوعدة لمن يمني النفس بكبت أنفاس الآخرين والحجر على حرياتهم من المخدوش حياءهم دومًا. أبو يوسف صانع باب الخروج، وصاحب أبي عمر المصري وفخرالدين بن عيسي، ما يزال يصف نفسه دومًا بالكاتب الروائي منحازًا بهذا اللقب إلى الأدب، ومفضلًا إياه على عوالم السياسة والأكاديمية. متنقلًا بين برلين وباريس وتل أبيب والقدس والقاهرة والخرطوم ونيويورك وغير ذلك من بلدان الدنيا، يمضي الفرعون المصري في أسفاره كما سبق ومضى غيره من الفراعين في قصصه، ومن وزارة الخارجية للمجلس الأعلى للثقافة إلى لجنة حماية المسار الديمقراطي، لا يكاد يثبت أقدامه في بقعة حتى تلح عليه الرغبة في الرحيل عنها وتركها إلى محل عمل جديد.
يجيد فشير أكثر من لغة، ويقوم بأكثر من عمل، ويتقمص أكثر من شخصية، ويقيم في أكثر من مكان، ويتزوج أكثر من واحدة، وينجب أكثر من ولد. يظهر ويختفي في أوقات يعلمها وحده. ينسحب أحيانًا من الوجود في مواقع التواصل عازفًا عن المشاركة محزنًا متابعيه ليفاجئ من حوله بالعودة تارة أخرى بروح جديدة وحسابات مختلفة لمستجدات الوضع ومتغيرات الأمور. يثير الجدل أحيانًا بين مراقبيه ومنتقديه لما قد يجدونه في تفسيراته للظواهر وانحيازاته للمواقف من غرابة الرأي وتفرد التحليل. لا ينفصل عنده ثبات المبدأ عن جلاء الرؤية وحتمية المواءمة في مزيج متجانس غير معتاد من جانب مفكري مصر وثوارها وساستها؛ ليقدم نموذجًا يثير الإعجاب بحق لما يعنيه أن تكون مصريًّا حقيقيًّا ممتازًا بالأصالة، عالميًّا محترفًا متصلًا بالحداثة.
The post عز الدين شكري فشير.. المصري العالمي appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست