يقول رئيس وزراء المملكة المتحدة الأسبق وينستون تشرشل: «رأيت وأنا أسير في أحد المقابر ضريحًا كتب علی شاهده: هنا يرقد الزعيم السياسي والرجل الصادق، فتعجبت كيف دفن الاثنان في قبر واحد!»، ربّما كانت هذه الطرفة التي جاءت على لسان واحد من أكبر ساسة القرن العشرين وصانعي القرار في العالم، شهادة بنكهة السخرية عن الواقع السياسي؛ فالسياسة تعتبر فن الممكن، ولعلّ هذا الفن يرتكز على مجموعة من الثوابت منها البراغماتية وهي مذهب فلسفي وفرع من الأمريقية «التجريبية»، ظهرت كنقيض للطوباوية والقطع مع الميتافيزيقا منذ العصر اليوناني في ديمقراطية أثينا، ويقوم هذا المذهب على اعتبار نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة، ومع تطور العمل السياسي أصبحت هذه النزعة روح السياسة بامتياز، ولعل انتصار الرأسمالية على الاشتراكية والشيوعية دليل على ذلك، وتأكيد على نجاح المنفعية السياسية من خلال المرونة والمخاتلة والتماشي مع المستجدات والاحتكام إلى واقع الأمور ومسايرة موازين القوى وتغيير التحالفات وفق التطورات، فالعملية السياسية عملية ديناميكية لا يمكن التنبؤ بكامل نتائجها ومآلاتها، فعدوّ الأمس حليف اليوم، والعكس صحيح، وليس أدلّ على ذلك من التغيّرات التي تشهدها السياسات العالمية من تحوّلات شاقولية، ويمكن دراسة هذه الظاهرة كنموذج السياسة التركية التي شهدت ثورة «كوبرنيكية» سنة 2016 بعد الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو تموز، وهو انقلاب خيّم بضلاله على السياسات التركية الخارجية.
تركيا وترويض الدب الروسي
سنة كاملة مضت على حادثة إسقاط الدفاع الجوي التركي لمقاتلة سوخوي 24 روسية، وتحديدًا بتاريخ 24 نوفمبر 2015 في سماء الحدود السورية التركية فوق جبل التركمان باللاذقية السورية، فيما اعتبرته الخارجية التركية ردّ فعل سيادي على اختراق الطائرة الروسية لمجالها الجوّي وتحديدًا فوق ولاية «هاتاي»، الأمر الذي تسبّب في أزمة دبلوماسية بين موسكو وأنقرة، حيث علّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الحادثة قائلاً: «إنها طعنة في الظهر من شركاء الإرهابيين…»، ممّا تسبب في تجميد العلاقات، وتوعّد روسيا تركيا بردّ قاس؛ حيث قامت هيئة الأركان الروسية بتركيز منظومة دفاعية متقدّمة مضادة للأهداف الجوية في قاعدة حميميم السورية، وتشير أرقام إلى خسائر تركية اقتصادية فادحة جرّاء الأزمة مع روسيا، حيث قدرّت بعشرة مليار دولار، وتراجعت نسبة السياح الروس بأكثر من 80%، في المقابل تسبّب حظر السلع الغذائية والفواكه والخضروات التركية إلى ارتفاع الأسعار الداخلية الروسية، ومن المؤكد أن تركيا كانت الخاسر الأكبر سياسيًا واقتصاديًا من هذه الأزمة، مع تراجع دور الحليف الأمريكي في المنطقة، كما تبع هذه الأزمة مجموعة من الهجمات الإرهابية، وكان أهمها الهجوم على مطار أسطنبول في 28 يونيو من العام الجاري في بداية صيف ساخن شهد اتّساع رقعة الهجمات الإرهابية جغرافيًا في تركيا، لتتأكد خطورة الوضع وتفجّره ليلة الانقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016، إذ سارع الرئيس التركي بعده بإعادة حساباته، وترتيب أولوياته، وإعادة النظر في تحالفاته، وإظهار مرونة مع خصومه دوليًا، فسارع بزيارة إلى روسيا في آب/ أغسطس، فمثلّت زيارة بطرسبرغ والمحادثات مع القيصر الروسي بداية لصفحة جديدة من العلاقات التركية الروسية ، قابلها بوتين بزيارة أنقرة في مؤتمر الطاقة العالمي؛ حيث قام بإمضاء اتفاق مشروع خطّ أنابيب السيل التركي، لنقل الغاز الروسي إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا كبديل «للسيل الجنوبي» عبر كييف الأوكرانية، ومن المؤكد أن المشاورات في بطرسبرغ تناولت بشكل أساسي الملف السوري، الأمر الذي تبلور في موقف رئيس الوزراء التركي بنعلي يلدريم الذي اعتبر في تصريح مفاجئ بشّار الأسد «جزءًا من الحل»، في ما أسمته الصحيفة الروسية «ايزفيستا» «استعداد أنقرة للإصغاء إلى روسيا…» بعد أن كانت الإطاحة بالنظام الأسدي في الشام وأعمالها مسألة مصيرية لدى تركيا، بلغت بأردوغان سنة 2012 التبشير باقتراب صلاته في الجامع الأموي، وزيارة قبر «صلاح الدين»، واعتبر ملاحظون أن عملية «درع الفرات» تمّت بمقايضة سياسية مع موسكو فتليّن الموقف التركي من الأسد، قابله ضوء أخضر روسي لتركيا لشنّ عملية عسكرية ضد تنظيم الدولة، كهدف تمويهي للتحجيم من المدّ الكردي في جرابلس وشمال سوريا، وما يمثّله الخطر الكردي في سلّم أولويات السلم القومي التركي، ومن هنا يمكن الاعتبار بأن المحادثات الروسية التركية توّجت باتفاق صامت على تقسيم مناطق النفوذ في سوريا، وإعلاء البراغماتية على الخلافات السياسية، وعلى هامش هذه التفاهمات السياسية الجديدة أجرت تركيا محادثات مع الخارجية الإيرانية في العاصمة أنقرة «بعد ساعات من لقاء بوتين وأردوغان»، لإذابة جليد العلاقات بين البلدين التي شهدت فتورًا على خلفية تضارب المواقف والمصالح من الأزمة السورية.
من دافوس ومرمرة إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني
تعود العلاقات التركية مع الكيان الصهيوني إلى سنة، 1949 حيث اعترفت أنقرة بدولة الاحتلال الإسرائيلي بعد أشهر من استباحتها للأراضي الفلسطينية العربية، وشهدت هذه العلاقة فترات مدّ وجزر تحكمها المواقف الديبلوماسية والتصويت على القرارات في مجلس الأمن فيما يخصّ القضية الفلسطينية؛ حيث حاولت الحكومات التركية المتعاقبة أحيانـًا مسايرة المزاج الشعبي التركي الرافض للاحتلال الصهيوني دون تجميد العلاقات رسميًا، لتصل في فترات أخرى مرحلة التحالف السياسي والإستراتيجي والعسكري، حيث زوّدت إسرائيل تركيا بالقمر الصناعي «أفق» ونظام الدفاع الجوي «أرو» المضاد للصواريخ، وتقديم مساعدات كبيرة في عمليات الإغاثة سنة 1999 بعد زلزال «أزمير» المدمّر، كما دعا الرئيس التركي الأسبق عبد الله غول سنة 2007 الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريز إلى إلقاء كلمة في مجلس الأمة التركي على هامش زيارة دولة إلى أنقرة، لكن لا يخفى على متابع دخول العلاقات الإسرائيلية التركية في أزمة ثقة عقب اعتلاء حزب العدالة والتنمية سدّة الحكم في تركيا سنة 2002، ليتواصل هذا الفتور ويظهر للعلن بعد واقعة دافوس سنة 2009، حيث شهد الاجتماع مشادة كلامية بين رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان والرئيس الصهيوني في ذلك الحين شيمون بيريز الذي حاول شرعنة الحرب على غزّة ليجيبه أردوغان «إن صوتك المرتفع دليل على شعورك بالذنب…»، ثم غادر الاجتماع، الأمر الذي لاقى استحسان الرأي العام العالمي وخاصة العربي في ما اعتبروه انتصارًا ديبلوماسيًا على سلطات الكيان، لتتأزم العلاقات رسميًا بعد حادثة سفينة «مافي مرمرة» في مايو أيار 2010؛ حيث هاجمت سلطات الاحتلال أسطول الحرية الذي كان يحمل إعانات إنسانية بغرض كسر الحصار المفروض على غزّة، لتخفّض تركيا علاقتها مع إسرائيل إلى المستوى الأدنى، واقتصر تمثيلها الديبلوماسي في تل أبيب على قائم بالأعمال، وعلّقت جميع الاتفاقات العسكرية ليستمرّ هذا الوضع لسنوات، حتى يونيو حزيران 2016 حين أعلن رئيس الوزراء التركي بنعلي يلدريم عودة العلاقات الرسمية وتطبيعها بعد اتفاق بين الطرفين في العاصمة الإيطالية روما، الأمر الذي مثلّ خيبة لدى كل من راهن من العرب على مبدأية أردوغان، الذي طالما اعتبروه حامي القضية الفلسطينية وشوكة في حلق الصهاينة، وتناسوا أن السياسة براغماتية وواقعية قبل أن تكون خطابات رنّانة ووعودًا متحمّسة.
ورقة «اللاجئين» سلاح أردوغان الصامت
«لا أنا ولا شعبي نفهم تهديداتكم الجوفاء، وإذا تماديتم أكثر ضد تركيا فإن معابرنا الحدودية ستفتح أمام اللاجئين»، كان هذا أهم ما قيل في كلمة أردوغان بعد أقل من 24 ساعة من قرار البرلمان الأوروبي تجميد مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتّحاد يوم الأربعاء 24 نوفمبر تشرين الثاني الجاري، معتبرًا أن بلاده ستواصل تقدّمها وتحقيق أهدافها عبر إيجاد «رفاق درب جدد»، وليست هذه المرة التي هدد فيها الرئيس التركي باستعمال ورقة اللاجئين وتدفقهم نحو أوروبا عبر بحر إيجه، الأمر الذي يشكّل كابوسًا لكل الدول الأوروبية ويؤرق حكوماتها بعد أن تراجعت شعبية الأحزاب الحاكمة، وتصاعد أسهم الأحزاب الشعبوية المعارضة، فقد تعهّد الاتحاد الأوروبي في مارس أذار من السنة الجارية بتخصيص 3 مليون يورو في غضون السنتين 2016-2017 لمساعدة اللاجئين السوريين في تركيا، كما تعهّد برفع القيود عن تأشيرات الدخول لأوروبا بالنسبة للمواطنين الأتراك، ولعلّ فصول الاستغلال التركي في مأساة اللاجئين مازالت متواصلة، فتركيا حتمًا تحسن التصرف مع هذه الفرصة الذهبية لتحقيق مآربها الاقتصادية والسياسية، وإملاء شروطها بفرض سياسة الأمر الواقع، وربّما قامت يومًا ما بحشد جيوش اللاجئين على الحدود البلغارية واليونانية، وأرخت الحبل لشبكات تهريب البشر.
انطلاقـًا مما سلف، يمكن التلخيص بأن لتركيا وزنها الجيوسياسي وقد تحولت إلى رقم صعب في الحسابات الاقتصادية والسياسية والعسكرية إقليميًا وعالميًا، ولعلّ السياسة أصبحت في قاموس الأتراك فنّ الممكن في زمن المستحيل، بعد أن استطاعت أنقرة النهوض في زمن قياسي عبر براغماتية أردوغان وديناميكيته، وعدم اعترافه بالطوباوية السياسية، فكلّ التحالفات مباحة ولا وجود لعدوّ دائم أو صديق مستدام، فمن هدّد بإسقاط المزيد من طائرات السوخوي الروسية يومًا ورفص الاعتذار، هو ذاته الذي هرول بعد أشهر إلى بطرسبرغ، وعبّر عن اعتذاره لموسكو عن الحادثة، ومدّ لها جسور التنسيق لمحاربة الخطر الإرهابي، حتى بلغ الأمر درجة تناقل وكالات الأنباء التركية نبأ استعداد بلدهم فتح قاعدة إنجرليك أمام الطائرات الروسية، قبل أن يتم نفي الخبر لاحقـًا، إن التطورات التي شهدتها المنطقة حتّمت على الرئيس التركي تطبيق سياسة المرونة والأولويات، والتركيز على تأمين الحدود التركية وملاحقة المتمردين الأكراد، وتناسي وعوده للقضية الفلسطينية والثورة السورية، ويبقى سيناريو وساطة روسية بين القاهرة وأنقرة غير مستبعد، تماهيًا مع سياسة التحالفات والمعسكرات العالمية، فتكون الصورة في أول صفحات الصحف العالمية لمصافحة تاريخية بين الرئيس التركي ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي، الذي ظلّ لسنوات في خطب أردوغان الرنّانة ذلك «الانقلابي المجرم».
The post أردوغان وسياسة «الزئبق» appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست