يعزو العديد من المفكرين تقلب الأحوال مؤخرًا في مختلف البلدان إلى هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي الإعلامية، والمقصود ليس بالضرورة إعلامًا موجهًا ذا أجندة خاصة، بل مجرد نقل المعلومات بين البسطاء ذوي المعرفة الضحلة، لتشحن نفوسهم، فيصنعوا التغيير بأيديهم.
وحيث يرى البعض أن «الجريدة المطبوعة» هي جوهر الإعلام، وبداية كل شيء، وكما تذكر كتب المؤرخين، ونرى في أفلامنا العتيقة، بعض الصبية الفقراء يحملون الجرائد، ويصيحون بأبرز العناوين، فيلتفت أحد المارة، ويبتاع الجريدة، مصدر المعلومة.
تلك الرؤية لا بأس بها، إلا أنها تغفل حقيقة انتشار الأمية في عصر الجريدة فقط، وفي ضوء تلك الحقيقة، لم يتبق طريق للمعلومات سوى «حكاوي الناس للناس»، وحيث كانت، ولم تزل للبيوت المصرية حرمة، فلا يدخل العديد من الغرباء إلى البيت، ظهرت الحاجة إلى مكان عام للقاءات والنقاشات، فجاءت المقاهي لتلبي تلك الحاجة.
وبهذا الصدد يقول الدكتور «عماد أبو غازي»، وزير الثقافة الأسبق، أنه لا يوجد تاريخ معين لأول مقهى في مصر، وأن بعض من زاروا مصر قديمًا، بداية من «هيرودوت» المؤرخ الإغريقي إلى العصر الحديث، كانوا ينشرون في كتاباتهم بعد عودتهم لبلادهم «أن المصريين يأكلون، ويتناولون المشروبات، في الشارع، ثم يذهبون لقضاء الحاجة في المنازل».
وأضاف أن المقاهي في مصر كانت تعد بمثابة نادٍ للمثقفين؛ تعقد فيها حلقات النقاش، وإلقاء الشعر والموسيقى والغناء، وكان أصحاب المقاهي يوظفون أحد الحكائين على الربابة؛ لتسلية الزبائن، وكانت المقاهي تتنافس فيما بينها لتوظيف أفضل الحكائين؛ حتى يجلبوا عددًا أكبر من الزبائن، وعن الدور السياسي للمقاهي يقول «أبو غازي» أن قهوة «ريش» كانت بمثابة مقر اجتماع لأعضاء «الوفد» قبيل ثورة 1919، ويذكر أنه عند إعادة ترميم المقهى عثر على مطبعة منشورات ثورة 1919.
وكما ذكر الدكتور أبو غازي، فإن دور المقاهي لم يقتصر فقط على اللقاءات والحكايات وتبادل المعلومات، بل سرعان ما استدعت الحاجة إلى التسلية وجود الفن البسيط؛ فظهر الحكائون لتتطور حكاياتهم إلى فن «الأرغول»، أي عزف الحكايات الشعبية على الربابة، ثم جاء الفنان «بيرم التونسي»؛ ليحول الأرغول إلى فن مكتوب في منتصف العشرينات، وتغني له السيدة «أم كلثوم» في النهاية.
ومن الفنون التي اشتهرت في المقاهي المصرية القديمة، فن «القافية»: وهي مباراة كلامية بين شخصين، يتميزان بخفة الظل، وسرعة البديهة، و«اللماحية»، وطلاقة اللسان، و«القفشة» الساخرة، يقول الأول كلامًا لاذعًا في وصف الثاني، فيرد الثانى عليه بكلمة «اشمعنى» وهي اختصار «ايش معنى»، فيرد الأول عليه ردًا ساخرًا وهكذا، إلى أن يفحم أحدهما الآخر، وسط ضحكات وقهقهات رواد القهوة.
كل تلك «الحكاوي» والفنون ساعدت في تشكيل وعي الشعب في تلك الفترة؛ مما ساهم في انتشار المعلومات بشكل عام، والثقافة بشكل خاص، ومما يدعم تلك النظرية أن أولى المقاهي في أوروبا ظهرت في «نابولي» بإيطاليا في منتصف القرن السادس عشر، وهي البلد التي خرج منها شعاع عصر النهضة؛ ليضيء أوروبا، بعد قرون طويلة في عصر الظلام.
وكما جاء عن المقاهي في كتاب «وصف مصر»، الذي أعدته الحملة الفرنسية في أوائل القرن التاسع عشر، «يوجد بالقاهرة الكثير من المقاهي، وليست لهذه المباني أية علاقة بالمباني التي توجد بفرنسا، إلا من حيث استهلاك البن، على الرغم من أن هذا المشروب يعد ويشرب بطرق مختلفة، وليس في هذه المباني أثاث على الإطلاق، وليس ثمة مرايا أو «ديكورات» داخلية، فقط دكك خشبية، وبعض الحصر من سعف النخيل».
ويذكر الكتاب أيضًا أن ارتياد المقاهي كان مباحًا لكل طبقات الناس، ووجدت إلى جانب المقاهي العامة، مقاهٍ لفئات وطوائف ومهن معينة، فهناك مقاهٍ لعلماء الأزهر والمشايخ، وهناك مقاه للأفندية أصحاب الطرابيش من الموظفين، كما وجدت مقاه لأصحاب الحرف والمهن المختلفة، كعمال المعمار والمنجدين والنجارين وغيرهم.
بيد أن الطبقة العليا في المجتمع المصري، لم تكن تبيح لنفسها ارتياد المقاهي العامة، وكانت ترى في ذلك انتقاصًا من هيبتها ووقارها، وظل هذا التقليد معترفًا به حتى بدايات القرن العشرين؛ فقد عرف أن الزعيم الشاب «مصطفى كامل» كان يجلس في دكان «شربتلي» في باب الخلق، وأن أمير الشعراء «أحمد شوقي» كان يجلس في محل حلواني. ولم يكن مباحًا جلوس النساء في المقاهي، حتى بعد ظهور الحركة النسائية في مصر، وعاب كثيرون على الصحفى الشهير الدكتور «محمود عزمي» أنه كان يجلس مع زوجته، وهي روسية الأصل في قهوة «بار اللواء».
وجاء أيضا في كتاب «القاهرة المدينة والذكريات» للكاتبة «رشا عدلي»، أن عدد المقاهي في مصر التي قدرها «إدوارد وليم»، المستشرق المعروف، 1000 مقهى بالقاهرة وحدها، في وقت كان فيه عدد سكان القاهرة 300 ألف، وفرضًا أن عدد نساء القاهرة كان النصف، بالإضافة إلى 50 ألف طفل، فسيبقى لنا 100 ألف رجل، بمثابة قهوة لكل 1000 رجل.
إذا كانت المقاهي المصرية «أماكن تجمع المصريين بامتياز» أحد أهم وأبرز قنوات التبادل المعلوماتي وانتشار الثقافة والفنون، من شخص لآخر، وليس من مؤسسة لشخص، وربما بدأ ذلك في التغير، على الأقل بالنسبة إلى البعض؛ منذ دخول «الراديو» إلى مصر في منتصف العشرينات، والذي بدأ كمحطات أهلية تذيع بعض الإعلانات والرسائل الغرامية، وبعد 6 سنوات فقط تم إلغاؤها؛ لتقوم الحكومة بالسيطرة على الراديو، وعبر عن تلك القضية الأديب «نجيب محفوظ» في روايته «زقاق المدق»، عندما طرد صاحب المقهى الحكاء صاحب الربابة، بعد أن اشترى راديو لتسلية الزبائن.
وفي الوقت الذي يحكي ويتحاكى المفكرون عن ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، لتغير المفهوم الإعلامي، يبدو أن التاريخ يروي لنا أن تلك الوسائل ليست سوى طريق لعودة التبادل المعلوماتي بين الأشخاص كما اعتادوا أن يفعلوا منذ زمن ليس بالبعيد، ولكن على نطاق أوسع.
The post القهوة منبر الإعلام في مصر appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست