في استطلاع رأي واسع أجري قبل سنوات، اختار رواد الإنترنت ورق الحمام كأهم اختراع بشري لا يمكن الاستغناء عنه. بقطع النظر عن غرابة هذا الاستطلاع ومدى مصداقيته، فإن المراحيض تستحق مكانها بين الاختراعات الأهم، وهي أيضًا حاجة ملحة في أغلب دول العالم الثالث، فقد حلت مشكلة الصرف الصحي، وما يصاحبها من تلوث وأمراض فتاكة. عمومًا هذه الأسئلة التي تبحث عن الأعظم والأفضل بلا منازع ليست سهلة، ولا تنتهي إلى إجابة مرضية، وقد تفتح نقاشًا محمومًا لا نهاية له.
مثلًا لا يمكن أن يتفق عشاق كرة القدم على الأفضل بين ميسي وبيليه ومارادونا، كما لا يمكن لخبراء الموسيقى أن يختاروا الأعظم بين باخ أو بيتهوفن أو موزارت، مع ذلك، وبين كل الاختراعات التي تحيط بنا، لا بد أن منها ما غير نمط حياتنا إلى الأبد، ومثل نقاط تحول في التاريخ الإنساني.
الزراعة اختراع فارق، فبفضلها تخلى الإنسان عن حياة الصيد، وجمع الثمار، فكون أولى القرى على ضفاف الأنهار، ثم انطلقت بعدها رحلة الحضارة.
الكتابة مكنت من توثيق المعلومات؛ فاختارها المؤرخون نقطة النهاية لعصور ما قبل التاريخ، بعد حوالي 5000 سنة أتت مطبعة غوتنرغ لتمكن من نشر المعرفة، وتمهد لقيام عصور النهضة والتنوير.
العجلة اختراع بسيط، لكنها سهلت نقل الأفراد والبضائع وتشييد المدن واستعملت في معظم الآلات كالساعات والمحركات. أما المحرك البخاري فقد أذن ببداية الثورة الصناعية وعصر الميكنة، وما حملتها من تغيرات اقتصادية وسياسية واجتماعية عميقة.
مصباح أديسون أنهى عصور الظلام إلى الأبد. يقولون إن الولايات المتحدة أرادت تكريم مخترعها بإطفاء المصابيح ليوم كامل لكن لم تستطع فعل ذلك حتى لدقيقة واحدة. الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة جعلت من العالم قرية صغيرة، وحملت زلزالًا اجتماعيًا واقتصاديًا نحن في خضمه.
في الطب لا يمكن أن لا نذكر اللقوح والمضادات الحيوية. ينقذ اللقاح حياة 3 ملايين طفل كل عام، ويقدر أن عقار البنسلين قد أنقد 200 مليون شخصًا في أقل من 60 سنة. بين كل هذه الاختراعات ماذا يفعل اللحم المشوي؟
لعقود طويلة مثل الدماغ البشري لغزًا محيرًا لعموم العلماء. هو بلا شك أعقد الأشياء في الكون المعروف بهندسته وكفاءته وطريقة عمله، لكن فهم ظهوره وتفرده بين بقية الأدمغة هو بالتأكيد تحد لقوانين التطور.
لنشرح أكثر: دماغنا كما نعرفه كبير جدًا بالمقارنة مع بقية الثدييات، وبالأخص الرئيسيات. على سبيل المثال تزن الغوريلا الأفريقية 200 كيلو جرامًا كاملة، ولا يتعدى وزن دماغها نصف كيلو، أما الإنسان فذو الـ70 كيلو جرامًا – ثلث وزن الغوريلا – فيصل وزن دماغه إلى ثلاثة أضعاف ذلك، أي 1.5 كغ.
النسيج الدماغي مكلف جدًا طاقيًا؛ فهو يستهلك 22 مرة كمية الطاقة التي يستهلكها النسيج العضلي. صحيح أن أدمغتنا كبيرة، لكنها لا تمثل سوى 2% من وزن أجسامنا، مع ذلك فهي تستأثر حتى أثناء النوم بربع طاقتنا الجملية. وبينما تقضي القرود ثلث يومها في تناول الغلال والأوراق وبعض اللحوم، لا نقضي أكثر من ساعتين. فكيف استطعنا أن نلبي حاجات أدمغتنا؟
ببساطة لأننا نطهو طعامنا. لم تساعدنا النار فقط على التدفئة وإنارة الظلام وتخويف الحيوانات المفترسة ومنح الطعام مذاقًا ألذ، بل حلت معضلة الطاقة؛ فجعلت منا بشرًا.
قضى ريتشارد ورانغهام صاحب النظرية، وعالم الشمبانزي، 20 عامًا في دراسة القردة الأذكى. ربما أتته الفكرة عندما جرب طعامها؛ فقد وصفه بأنه عسير الهضم، قليل السكريات، ولا يشبع. ومن المعروف أن الأشخاص الذين اتبعوا حمية تقتصر على تناول الأطعمة النيئة قد أظهروا أعراض سوء تعذية، وتوقفت عند أكثر من نصف النساء الدورة الشهرية كعلامة على نقص في الطاقة والمواد الأساسية.
أما التجارب التي أجريت في المخابر على الفئران؛ فقد بينت ميلها إلى الأطعمة المطهوة، كما أظهرت تزايدًا في وزنها، وحاجة إلى كمية أقل من الطعام. طهو اللحم بالأساس يوفر على الجهاز الهضمي مجهودًا كبيرًا في المضغ والهضم وامتصاص المواد المهمة. هل جربت مرة لحمًا قليل الطهو؟ لا يستفيد الجسم إلا من نصف بروتينات البيض النيئ، لكن هذه النسبة ترتفع إلى 91 إن قمنا بسلقه.
وفي حين ركز العالمان إيولو وويلر على دور اللحم دون غيره من الأطعمة لأنه يوفر البروتينات والدهون اللازمة لبناء خلايا الدماغ، أضافت أبحاث علمية أخرى أهمية طهو البطاطا والنباتات الغنية بالنشويات؛ لأنها تتيح للدماغ وقوده المفضل: (الجلوكوز). نتيجة لذلك تراجع حجم الفك لصالح سعة الجمجمة وتقلص طول الأنبوب الهضمي وحجم العضلات لأجل نمو الدماغ وتلبية حاجاته من الطاقة. من سخرية القدر أن اختراعنا للزراعة ربما تسبب في تقلص حجم الدماغ بسبب نقص اللحوم والاعتماد الكلي على حمية نباتية.
نظرية مغرية أليست كذلك؟ مع أنها تجد معارضة من علماء كثيرين. لا شك أنك تعرف اللغز الأشهر عن الدجاجة والبيضة؟ أقصد هنا: هل سبق اكتشاف النار نمو أدمغتنا، أم أن أدمغتنا الكبيرة اكتشفت النار؟ لا تقف الأدلة الحالية مع أنصار اللحم المشوي؛ فنمو الدماغ بشكل بارز بدأ مند مليوني سنة، أما آخر الأحافير، فلم تجد استعمالًا للنار قبل مليون سنة. لكن ذلك لا يعني نسف النظرية؛ فمازالت أدلة كثيرة تختبئ في الكهوف وتحت الأرض. الطبخ بالتأكيد اختراع عظيم، ربما سيكون من المبالغ أن يحتكر سر تفردنا وتفوقنا على باقي الحيوانات، لكنه يستحق مكانه بين الاختراعات الأعظم. عن نفسي لن أختار أديسون، مخترع المصباح، أو جيمس واط، مبتكر المحرك البخاري، كأعظم مخترع، بل سيذهب صوتي إلى تلك المرأة، أو ذلك الرجل المجهول، الذي جرب اللحم مشويًا؛ فوجده لذيذًا، ومكننا بعدها من تحقيق كل الاختراعات العظيمة التي أتت بعده. لقد اعتبر داروين اللغة والنار أهم ما أنجزته البشرية، وقال أرسطو: إن الإنسان حيوان ناطق. أليس حيوانًا طباخًا أيضًا؟
وأنت ما رأيك؟ ما هو الاختراع الأعظم؟
The post هل اللحم المشوي أعظم اختراع بشري؟ appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست