يقول الطوفي «رعاية المصلحة مقدمة على النص والإجماع عند التعارض، وإن خالفها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما، بطريق التخصيص والبيان لهما»([1])، وقد وجدنا عمر يعطل الحدود في عام المجاعة، وأوقف سهم المؤلفة قلوبهم، يرى البعض في ذلك تعارضًا بين المصلحة والنص، وأن عمر قد رجح المصلحة على النص. وهنا نتساءل: هل يمكن أن تتعارض المصلحة مع النص؟ كيف نثق في رؤيتنا للمصلحة؟ عند التعارض نرجح النص أم المصلحة؟
(1)
لا يمكن تحديد المصلحة، إلا بتحديد معايير عامة، عليها تُقاس المصلحة؛ فهل المصلحة في تحقيق السعادة الدنيوية؟ أم السعادة الأخروية؟ في إسعاد أكبر عدد ممكن؟ في موافقة المبادئ؟ ما هي المبادئ أصلًا؟ هل تعترف المصلحة بالاحتياجات الروحية؟ هل تعترف بوجود آخرة؟ هل الحياة الشاقة بآخرة منعمة يُعد مصلحة؟
تختلف إجابات الفلاسفة حول هذه الأسئلة، ومن كل إجابة خرجت مدارس تختلف في رؤيتها للمصلحة.
يقول (جورج وهيتكروس) «ما المصالح التي يجب أن يحافظ عليها الدستور المثالي؟ إنه سؤال يتعلق بالقيم، ويدخل في دائرة فلسفة التشريع. وما أكثر ما نرجو من الفلسفة التي تساعدنا، ولكن ما أقل ما هي مستعدة لبذله في هذه السبيل؛ فقد فشلنا في الكشف عن ميزان للقيم، يمكن قبوله لدى جميع الأطراف»([2]).
لا شك أن للفلسفة محاولات مضنية لتحديد المصلحة، إلا أننا لا نجد منظورًا نتفق جميعًا عليه، أو نجزم بصحته. نحن أمام محاولات ظنية، واجتهادات بشرية يطرأها النقص والعجز.
(2)
نجد القرآن ينص على أنه جاء لمصلحة العباد، من أجلهم هم:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾([3])
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾([4])
﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾([5])
إذن نحن أمام منظور إلهي كامل يستهدف مصلحة العباد، ومن ثم اتباعه يعني تتبع طريقًا موثوقًا يهدي إلى المصلحة.
(3)
بصرف النظر عن عجز العقل البشري على التوصل لمصلحة يقينية – في حين تنص الشريعة على معرفتها -فإن واجبنا تجاه شريعة الله تعالى هو تحكيمها وطاعتها، حيث هو مكان العبد المسلم من ربه العليم. ﴿وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾([6])، ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾([7]).
(4)
يتبين من ذلك أن موقف النصوص من المصالح على ثلاث شعب:
- أمور لم يتحدث عنها الدين، وهنا يُترك الأمر للعقل، يبحث ويتحرى ليصل لما يراه مصلحة، وهنا تُسمى مصلحة مرسلة يجب اتباعها.
- نص جزئي يخالف مصلحة في موقف ما، إلا أن المصلحة مستقاة من نصوص عامة؛ مثلًا حين نجد نصًا يأمر بالحج، ومريضًا يتأذى من أداء الفريضة، مصلحة المريض هنا مستقاة من نصوص عامة (ما جعل عليكم في الدين من حرج)، (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها)، إذن لا يحج هذا المريض، ولا نقول قدمنا المصلحة على النص، وإنما قدمنا نصًا على نص.
- مصلحة نصل إليها بعقولنا تخالف نصًا قطعيًا، ولا نجد هنا سندًا من الدين يؤيد هذه المصلحة، هنا يجب اعتبار أن ما نراه مصلحة لا يعدو كونه ظنًا، أما المصلحة المشار إليها من النص يقينية، ويجب ترجيح اليقيني على الظني بلا شك. مثلًا حين يظن البعض أن المصلحة وراء تساوي ميراث الابن والابنة، في صرف الزكاة لغير مصارفها الشرعية، عندئذ هي مصلحة موهومة مقابل مصلحة قطعية يشير إليها النص، فيجب إعمال النص.
يقول البوطي «لابد إذن أن يُعرض نتاج خبرات الناس وتجاربهم وعلومهم على نصوص الشريعة وأحكامها الثابتة، فإن كان بينهما اتفاق أخذ بها، وكان النص هو المحكم في ذلك. وإن كان بينهما تعارض بأن كان ما رآه الناس مصلحة يعاكس النص الشرعي الثابت وجب إهمال تلك المصلحة. وليس معنى هذا أن الشارع قد أهمل هنا مصلحة دلت عليها علومهم وتجاربهم، بل المعنى أن تقدير هؤلاء الناس لهذه المصلحة لابد أن يكون قد اتصل به نوع من الخلل والفساد»([8]).
نقف الآن أمام عدة شبهات تتعارض مع ما اتفقنا عليه:
أولًا: يعترف علم الفقه بفقه المآلات، حيث ندرس نتائج تطبيق الحكم الشرعي؛ لأن من الممكن ألا يحقق الحكم مصلحة. بذلك نعترف أننا ننظر وراء النص دائمًا؛ هل فعلًا يحقق المصلحة أم لا!
هنا نشير لنقطتين:
- اتباع الأحكام الجزئية دون النظر إلى نتائجها، ومناط الحكم، ومقاصد الشريعة، قد يُخرِج الحكم من مقصده، ويجعل من الشريعة ما يعارض بعضها بعضًا وتهدم نفسها، لذا فصحيح أن الشريعة لا تفوت مصلحة، إلا أن ذلك مشروط بصحة التطبيق.
- تحري مقاصد الأحكام ومراعاة تحقيقها لا ينافي التسليم للنص، لأننا لا نحاكم النص: هل فعلًا يحقق المصلحة أم لا؟ وإنما محل البحث: كيف نطبق الحكم الإلهي بالطريقة التي قصدها الله نفسه؟ وغرض هذا العلم التأكد من حسن التطبيق من حيث مَن، ومتى، وأين، وكيف، يعمل النص؟ وبالتالي لا نقف من النص موقف المحاسِب، ونشكك في صحة مقصده، وإنما نقف موقف التابع الحريص على حسن التطبيق.
ثانياً: هل رجَّح عمر المصلحة على النص؟
- ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ..﴾([9])
حددت الآيات مصارف الزكاة الثمانية، ومنها: المؤلفة قلوبهم؛ أي الذين تُتألف قلوبهم من الداخلين في الإسلام حديثًا. ومناط الحكم ليس الداخلين في الإسلام بأعيانهم، ولا مجرد إسلامهم، وإنما صفة استجلاب قلوبهم بالألفة. ولم يأمر النص باستجلاب قلوبهم، وإنما هو مناط للحكم، أي عند وجود داخلين في الإسلام يستدعي موقفهم استجلاب قلوبهم بالألفة، هؤلاء يستحقون الزكاة.
ولقد كان اجتهاد عمر في مناط الحكم، فقد رأى أن الإسلام وصلت قوته إلى الحد الذي لم يعد محتاجًا لاستجلاب قلوب الداخلين فيه جديدًا. إذن فبحث عمر كان: هل هؤلاء ينطبق عليهم الحكم أم لا؟ هل نحتاج لاستجلاب قلوبهم، ومن ثم يُطلق عليهم (مؤلفة قلوبهم) فيستحقون الزكاة؟ ولم يسأل: هل الحكم يحقق مصلحة أم لا؟
- ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾([10])
بينت السنة حدودًا لتطبيق حد السرقة، فحددت مثلًا المبلغ الذي لا يُطبق الحد إن كان المسروق أقل منه، كما حددت صورًا للشبهات عندها يتوقف الحد، لقول النبي: «ادرأوا الحدود بالشبهات»، لذا فقد أجمع المسلمون على عدم تطبيق الحد عند وجود شبهة، لكن اختلفوا في تحديد صور الشبهة.
رأى عمر أن وجود مجاعة يعتبر شبهة، حيث تتعلق شبهة في أحقية السارق في المال المسروق، لأنه مضطر ويكاد يموت جوعًا. إذن لم يوقف عمر الحدود، وإنما وجد أن شروطها لم تتحقق.
ثالثًا: عمل الحنفية والمالكية بالاستحسان، وهو ترجيح المصلحة على القياس، وبالتالي فقد اعترف أئمة بعض المذاهب بترجيح المصلحة على النص عند التعارض!
في الحقيقة محل الخلاف هو تعريف الاستحسان. نجد عدة تعريفات للعلماء.
- الاستحسان: هو دليل ينقدح في ذهن المجتهد ويعسر عليه التعبير عنه.
تنتج عن هذا التعريف حالتان: الأولى: حين يتأكد المجتهد من حكم فقهي اعتمادًا على الكتاب أو السنة أو القياس، غير أنه لا يستطيع التعبير عنه، عندئذ يظل الاستحسان معتمدًا على الكتاب أو السنة، وعدم القدرة على التعبير لا أثر له.
الحالة الثانية: حين يشعر المجتهد أن حكمًا ما هو مقصد الشارع، عندئذ لا قيمة لشعوره دون دليل، ولا يُعمل به.
- الاستحسان: هو دليل يقابل القياس الظاهر المتبادر إلى الأفهام.
ما هو هذا الدليل الذي يقابل القياس الظاهر؟ يقول صدر الشريعة: «نعني به أحد الدلائل التي هي حجة إجماعًا». ويقول «نعني به دليلًا من الأدلة المتفق عليها يقع في مقابلة القياس الجلي؛ فلا معنى لإنكاره، لأنه إما بالأثر كبقاء الصوم في النسيان، وإما بالضرورة كطهارة الآبار رغم ظهور تلوثها»([11]).
وبذلك يتبين أن الاستحسان على هذا التعريف قائم على دليل معتبر، وليس محض رؤية شخصية للمصلحة تعارض النص.
رابعًا: اعتبر بعض العلماء المصالح المرسلة أحد مصادر التشريع، وعند تعارض المصلحة مع الكتاب أو السنة أو القياس نعتبر مصدرين تعارضا ونرجح المصلحة!
عرَّف الأصوليون المصالح المرسلة بأنها: كل منفعة داخلة في مقاصد الشارع، دون أن يكون لها شاهد بالاعتبار أو الإلغاء.
وبذلك يخرج عن المصالح المرسلة:
- كل مصلحة شهد النص باعتبارها. عندئذ تُتَّبع لأن النص دل عليها، وليس من باب المصالح المرسلة.
- وكل مصلحة شهد الشرع ببطلانها. عندئذ يقر الشرع بأنها ليست مصلحة من الأصل.
وإن قيل عند تعارض النص مع المصلحة المرسلة يُعمل بالمصلحة باعتبارها تخصيص للعام، فلا يجوز ذلك؛ لأن المخصِص يجب أن يكون مصدرًا معتبرًا، كتخصيص آية لآية، أما شرط اعتبار المصلحة المرسلة مصدرًا أصلًا هو ألا تعارض الشرع، فإن عارضته، عندئذ تصبح مصلحة موهومة، بل منهي عنها، وليست حجة.([12])
يقول الإمام الغزالي «كل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصودٍ فُهم من الكتاب والسنة والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع، فهي باطلة مطَّرحة، ومن صار إليها فقد شرَّع»([13]).
خامسًا: اتفق العلماء على قاعدة: العادة مُحكَّمة، ومن ذلك يتبين أن الحكم الشرعي قد يتغير بتغير الزمان، وما هذا إلا ترجيح المصلحة على النص!
موقف الشرع من العرف على نحوين:
- إما أن يتعرض الشرع بحكم شرعي محدد في العادات، مثل حجاب المرأة، وتحريم الخمر..إلخ. هذه الأحكام لا يطرأ عليها تبديل، ولا إلغاء.
- إما أن يكون العرف مناطًا لحكم شرعي، مثل وجوب إنفاق الزوج على زوجته، لكن ما المبلغ الواجب على الزوج؟ هنا يحدده العرف طبقًا للمستوى المادي للمجتمع والزوج. وكذلك شرط المروءة لقبول الشهادة، وطرق توثيق العقود، كل ذلك تتغير صوره بتغير العادات، وهو المقصود بقاعدة: العادة مُحكَّمة.
وبذلك يتبين أن الشرع قد راعى المصلحة بأن سمح للأحكام أن تتغير صورها وهيئتها مع تغير مناط الحكم والعادات، إلا أن العادة ليست مصدرًا للتشريع بحيث تعارض الشرع، وتغير من أصل الحكم.
يقول الشاطبي «العوائد المستمرة ضربان: أحدهما العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، والضرب الثاني هي العوائد الجارية بين الخلق، بما ليس في نفيه، ولا إثباته، دليل شرعي.
فأما الأول، فثابت أبدًا، كسائر الأمور الشرعية. وأما الثاني فقد تكون العوائد ثابتة، وقد تتبدل، ومع ذلك فهي أسباب لأحكام تترتب عليها»([14]).
خلاصة القول: إن العقل وحده لا يستطيع إثبات المصلحة قطعًا وجزمًا، وأن الله العليم الحكيم حين ينص على حكم فهو بلا شك لمصلحة عباده، وحين تتعارض رؤية العبد مع منظور الرب، فلا شك يُقدم أمر الله تعالى ويطيع العبد.
————————————–
[1]. (تفسير المنـــــــار) ج7 ص170
[2]. ِA Text Book of Jurisprudence, P. 104
[3]. النحل: 97
[4]. الأنبياء: 107
[5]. المائدة: 6
[6]. النساء: 65
[7]. آل عمران: 32
[8]. (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) ص67
[9]. التوبة: 60
[10]. المائدة: 38
[11]. (التوضيح) ج2 ص81
[12]. (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) ص334
[13]. (المستصفى من علم الأصول) ص329
[14]. (الموافقات) ج2 ص283
The post ماذ لو تعارض الشرع مع المصلحة؟ appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست