ثمّة معضلة فلسفية شهيرة تُدعي «trolley dilemma» لصاحبتها الفيلسوفة البريطانية Philippa Foot، وقد عُدِّلت الأطروحة أكثر من مرة بإضافة أو حذف أحد العوامل المفترضة مسبقًا من قبل فيليبا، ويُعد أشهر المُعدّلين والمحللين للمعضلة هو الفيلسوف الأمريكي Judith Jarvis Thomson.
تفترض المعضلة أن ثمة خطًّا للسكك الحديدية مربوط عليه خمسة أشخاص، وهم مسلوبو القدرة على الفكاك، وأن قطارًا يمضي إليهم، بينما يوجد شخص «س» ليس إلا مارًّا ولكن بيده أن يستخدم آلة التحويلات ليتخذ القطار المسار البديل مُنقذًا بذلك الأشخاص الخمسة، ولكن هناك مشكلة أخرى، وهي أن عاملًا يوجد على الخط البديل.
الحلول المتاحة أمام هذا الشخص كلها تحمل في طيّاتها صراعًا بين متصارعات عدة متولدة عن وازع أخلاقي، وإنساني، أو وازع ديني.
فالشخص المار يمكنه أن يتدخل منقذًا خمسة أشخاص -وإلى هذا الحد فقد قام بعمل بطولي-، ولكن مع بقية الجملة تُستدعى المتصارعات المتنازعة المذكورة مسبقًا؛ حيث إن عمله البطولي كان على حساب حياة شخص آخر.
يمكن أيضًا للشخص المار أن يترك ما يحدث يحدث مبررًا ذلك أن الأمر برُمّته لم يكن له فيه يد، فما سيحدث سيحدث لمُسبِّب آخر عداه، وهو ليس إلا كلمة خارج السياق! ولكن لربما يخلق هذا الحل أشد الصراعات فتكًا بهذا الشخص فيما بعد.
وعلى فرض أن ذلك المار يفكر بنفس التسلسل الذي تُكتب به الاحتمالات الآن، وبعد توقفه عند صعوبة ما سيلقاه من الصراع حال اللجوء للحل الثاني، فإنه ربما يعود إلى الاحتمال الأول الذي رفضه فيما سبق. ولكنه مقارنة بالحل الثاني قد يكون الأكثر إراحة، حيث سيموت شخص واحد وينجو خمسة، بينما الحل الثاني سيقتل الخمسة.
ثم يتفرع عن كل احتمال عدة احتمالات لدوافع الشخص، وعدة احتمالات لنشوء كل دافع على حدة.
وتتفرع عدة احتمالات لماهية الصراع الناشئ عن اختيار كل حل من الحلول كذلك.
أحد أشهر التعديلات على هذه المعضلة، هي التي أجريت بواسطة الأمريكي المذكور أعلاه Judith Jarvis Thomson، حيث بقي افتراض القطار والخمسة أشخاص كما هو مع افتراض إضافي بأن المار ماشٍ على ممر أعلى القطار، وأن القطار قد أصبحت سرعته أبطأ بحيث أن شيئًا ذا وزنٍ ثقيل يعترض طريقه لهو كفيل بإنقاذ الخمسة، ويمر بجوار الشخص، آخر سمين.
هل سيدفعه الشخص لإنقاذ الخمسة ؟ ثم تتابع نفس الأسئلة والاحتمالات المذكورة أعلاه متمخضًا كل منها عن سابقه.
ثمّة تعديل آخر قد يجعل الأمر أكثر صعوبة، ويُدخل به ناحية إنسانية أخرى، حيث يفترض أن مسار القطار عليه عشرة أشخاص من ذوات التسعين عامًا، بينما المسار الذي فيه خلاصهم عليه طفل ابن عام واحد.
في نفس السياق يوجد ما يمكن أن نسميه «أحجية» لها ما لها من أوجه الشبه بأمر المعضلة، ألا وهي الأحجية المروية من قبل القِس للمسخ الكافكاوي الشهير يوسف ك في رواية المحاكمة لصاحبها فرانز كافكا.
روي القس لـ«ك» ما هو أشبه بالأحجية التي يمكن أن ترتقي لوصف أو مُسمي «المعضلة»، والتي تتمثل أطرافها في شخصين أحدهما حارس باب، والآخر شخص يطلب اللجوء إلى الباب، والطرف الثالث هو الباب الذي يمثل القانون.
منع الحارس الشخص من الدخول أعوامًا حتى شاخا كلاهما، وصارا كهلين، ثم أخبر الحارس الشخص بأن الباب كان مخصصًا له وحده ولذلك لم يطرقه غيره لأعوام. وأخذ القس يطرح الاحتمالات الموجودة لكون الشخص مُغفلًا أو مسئولًا عما انتهى إليه أمره، واحتمالات أن يكون الحارس مخدوعًا بقوة من وراء الباب وسلطانهم مع أنه لم يعبره قط!
إلى هنا انتهى الجزء المرمي إليه من أمر «ك» والقس، ويمكننا أن نسأل أنفسنا أسئلة مشابهة لتلك التي سُألت مسبقًا.
هل الحارس الذي ظن أنه شخص جيد يؤدي عمله أكمل تأدية، كان مسئولًا عن كونه مخدوعًا يخدم الوهم؟! هل الشخص مسئول عن قراره بألا يفعل شيئًا سوى الانتظار، أو بالأحرى تسمية الأمر قراره بألا يقرر؟
هل أُتيح لكليهما غير ما سيقا إليه؟
كلاهما اكتفى بما رأته عينه وسمعته أذنه، حتى «ك» كان يلقي بتفسيرات تثير سخرية القس؛ لقصوره عما كان يعلم القس.
من فلك المعضلة التي لا يمكن نعتها إلا بمسماها «معضلة» إلى فلكٍ منسلخ عنه، فإنه من أكثر القضايا الفلسفية التي تمثل سؤالًا قد يسأله كل منا نفسه يوميًّا، وقد لا يجيبه وهو: «هل أنا مسئول مسئولية تامة عن قراري؟ هل كل ما أحياه أو أفعل وليد ما تدفعني إليه نتاجات عقلي وحده؟ هل أنا المُسبب لكل نتيجة تقع عليّ كمفعولٍ؟».
الحتمية وحرية القرار قضية حية ما حيّ الإنسان، وإيمانه من عدمه بوجود قوى أخرى غيره تحكم ما يعيش قد لا يعطي إجابة تامة لسؤاله المُعجِّز.
لو أن أحدنا هو الشخص المار في الفرضية أو هو الحارس أو الطارق، هل هو المسئول الأوحد عن فعله والمؤاخذ به؟
لو أن أحدنا فكّر قليلًا في أمر المعضلة ووَضَعَه كصورة مجاورة لأخرى تحوي أحد مواقفه المطالب فيها بالقرار، فإنه حتمًا سيصل إلى استنتاجٍ.
إنّ ما نقرره وننسبه إلى عقولنا نسبًا مجردًا من أي عوامل أخرى يشبه سؤال اختيار من متعدد يحوي الإجابات «أ، ب، ج، د» ثم جاء أحد المسئولين عن السؤال حاذفًا الإجابة «د» مطالبًا إياك بالاختيار بين الإجابات الثلاثة المتاحة بعد الحذف.
اعتقد أن من يقرأ الآن تبادرت إلى ذهنه الأسئلة المشار إليها بالأعلى واحد تلو الآخر، هل هو حقًّا من سيختار؟ ألم يوجد احتمال 1\4 أنه كان سيختار «د» لو أن التعديل لم يأت؟ ألم يكن وقتها سينسب ذلك الاختيار إلي حريته المطلقة! هل تناسى من البداية أن نفس القوي لو أضافت الاختيار «هـ» لأصبح احتمال اختياره «د» 1\5 بدلًا من 1\4 بفعل خارجي؟!
كل الأسئلة تحتمل أن تكون ذات إجابات لا حصر لها تتفرع عن مبادئ مختلفة واعتقادات متنوعة، وتحتمل أن تكون بلا أية إجابة.
لكن المؤكّد أن إنسانًا دائمًا يدّعي التأكد الخالص من رأيه، وصواب فعله، وسداد كلماته هو مغيّب أو مخبول، يشبه في ذلك أمر صاحبنا الذي كان سيختار «د» قبل التعديل مُدعيًا ما كان سيدعي، ومُضمنّا اختياره وادعاءه اعتقادًا غير مفهوم بأن كل شيء مجرد إلا من ذاته بما في ذلك قراره!
أما إنسان منعوت بالحيرة فقد يكون صاحب الفَلاح -وإن كان غير مُدرِك لذلك-.
وقد قال شيخ المتصوفة الأكبر -كما ينعتونه- محيي الدين بن عربي:
«أشهدني الحق بالحيرة، قال لي: ارجع، فلم أجد (أين).
فقال لي: أقبل، فلم أجد (أين).
فقال لي: قف، فلم أجد (أين).
في الحيرة تاه الواقفون، وفيها تحقق الوارثون، وإليها عمل السالكون، وعليها اعتكف العابدون، وبها نطق الصديقون، وهي مبعث المرسلين ومرتقى همم النبيين، ولقد أفلح من حار».
قال تعالي :
«وأنّا ظننّا أن لن نُعجز اللهَ في الأرضِ ولن نُعجزه هربًا» سورة الجن، الآية 12.
لعل الآية الكريمة المختوم بها تَجَاوُر الكلمات المُؤلفة لذا المقال تصلح عنوانًا أو ملخصًا جامعًا لما كُتب وما لم يُكتب في ذلك الصدد، في بضع كلماتٍ كاملة.
The post حتمية القرار واللاقرار appeared first on ساسة بوست.
لتضمن أن تصلك جديد مقالات ثقفني اون لاين عليك القيام بثلاث خطوات : قم بالإشتراك فى صفحتنا فى الفيس بوك "ثقفني اون لاين " . قم بالإشتراك فى القائمة البريدية أسفل الموقع وسيتم إرسال إيميل لك فور نشر درس جديد . للحصول على الدروس فيديو قم بالإشتراك فى قناتنا على اليوتيوب "قناة تقنية اون لاين " . من فضلك إذا كان عندك سؤال مهما كان بسيطاً تفضل بكتابته من خلال صندوق التعليقات أسفل الموضوع . قم بنشر مقالات ثقفني اون لاين على الفيس بوك أو ضع رابطاً للمدونه فى مدونتك .تحياتى لكم لك from ساسة بوست